يثار علي الساحة بين الحين والآخر جدل يتعلق بإشكالية الدين والعلمانية وأوجه التعارض والتشابه بينهما وآخرها كانت تصريحات لوزير الثقافة حلمي النمنم التي وصف فيها الشعب المصري بأنه "علماني بالفطرة".. فقد فسرها السلفيون بأنه يعني فصل الدين عن الدولة وهو ما يخالف الشريعة بينما أكد علماء الأزهر أن هناك خلطا في المفاهيم حول معني العلمانية وآن الأوان ليتفق العلماء والفقهاء ورجال السياسة والفن والأدب والاقتصاد والمثقفون علي استراتيجية جديدة للنهوض بأمتنا ورفع مستوي المعيشة لشعبنا ومقاومة كل صور الإرهاب التي تأتي من الداخل أو الخارج بدلا من الحديث عن هذه الأمور التي لا طائل من ورائها. يقول د. محمد كمال إمام أستاذ الشريعة الإسلامية بحقوق الإسكندرية: الالتباس يأتي من استخدام مصطلح العلمانية لأن العلمانية في الغرب كما هي تعني الفصل التام بين الدين والدولة.. وهذا الأمر يخص العالم المسيحي الغربي فقط لما عاناه من حروب كانت بين الدولة والكنيسة لعدة قرون إلي أن جاءت الدولة القومية الحديثة وفضت الاشتباك علي أن الدين للكنيسة باعتباره أمرا خاصا وأن الدولة للحياة الاجتماعية بكل صورها وأشكالها.. هذا الانفصام لم تعرفه المجتمعات الشرقية بوجه عام مسيحية كانت أو إسلامية.. فالدين هو جزء أساسي من بناء هذه الأمة وفيه جزء خاص يتعلق بالمسجد أو الكنيسة وجزء عام يتعلق بالزواج والشوري والنظم والقوانين وكل هذه المسائل تتعلق بالحياة الاجتماعية.. فثقافة الأمة وعقلية المجتمع كلاهما لا يعرفان هذا الفصل بين الدين والدولة. أما إذا كان المقصود بالعلمانية هي الدولة المدنية أو الدولة الديمقراطية الدستورية الحديثة كما جاء في وثيقة الأزهر الأولي فهذا هو موقف الإسلام الذي لا يعرف الحكومة الدينية ولا الدولة الثيوقراطية وإنما أنظمة الحكم فيها أو في منظوره تتم من خلال اختيار نزيه وعادل وشفاف من الأمة لنظامها السياسي ورجاله وبالتالي فإن الإسلام ليس بحاجة إلي أن نصفه بأنه دين علماني لأن الدولة المدنية قائمة قبل نشوب مصطلح العلمانية ولسنا بحاجة إلي أن نعتبر تأسيس السلطة علي مرأي الأمة ومن خلال اختيارها أمرا مستحدثا لأن هذا هو الذي تم في عصر الخلفاء الأربعة. أكد د. إمام أن القضية ملتبسة والمصطلح ملتبس ويثير عند البعض الخوف من الديمقراطية أو الخوف من الإسلام الذي هو دين الفطرة والحرية والسلام واحترام حقوق الإنسان.. والديمقراطية هو اختيار الناس لقيادتهم وهذا هو جزء أيضا من توجيهات الدين الحنيف لذلك فإن الأجدي من هذا الحوار أنه علي المفكرين والمثقفين والعلماء والفقهاء ورجال الفن والأدب والاقتصاد أن يجتمعوا ليقدموا لنا استراتيجية جديدة للنهوض بأمتنا ورفع مستوي المعيشة لشعبنا ومقاومة كل صور الإرهاب التي تأتي من الداخل أو الخارج بدلا من الحديث من البرج العاجي في سفسطة لا لزوم لها بين الدين والعلمانية أو الإسلام والديمقراطية لأن كل فكرة وكل نظام يحقق مصلحة المجتمع أفرادا وجماعات هو من الإسلام وتدعو إليه جميع الأديان السماوية. دين الإنصاف د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر يري أن ديننا علمنا الإنصاف فقد قال تعالي "وقولوا للناس حسنا" وقال النبي صلي الله عليه وسلم " كفي بالمرء إثما أن يحدث بكل ما يسمع" تأسيسا علي ذلك وما يماثله فإن التصريحات المنسوبة لوزير الثقافة حلمي النمنم إن كان يقصد بها مدنية الدولة والمجتمع وعدم وجود حكومة دينية فهذا هو الواقع والمتفق مع مبادئ ومقاصد الشريعة الإسلامية لأن الدولة الدينية والحكومة الدينية كذلك لا وجود لها في صحيح الإسلام إلا عند الشيعة الذين يرون بولاية الفقيه سواء كان هذا المبدأ دينيا أو سياسيا.. ولذلك لم يجعل الإسلام كهانة في إقامة الشعائر الدينية ولا وصاية لاحتكار فهم النصوص الشرعية كمزاعم وادعاءات المتسلفة. أكد د. كريمة أن التاريخ الإسلامي كله لم يوجد فيه رجال دين ولا تسلط هؤلاء علي مقاليد الحكم.. والمجتمع الأول في عهد النبي محمد صلي الله عليه وسلم كان مجتمعا مدنيا بدليل صحيفة ووثيقة المدينة المكونة من 54 مادة تكفل حقوق المسلمين وغيرهم.. ولم يتعرض الإسلام لصفة الحكم السياسي وترك ذلك كله للأعراف "أنتم أدري بشئون دنياكم". أما إذا قصد وزير الثقافة بالعلمانية مناهضة الدين وعزله عن الحياة العامة للناس ونزع الهوية عن المجتمع فهذا مخالف للشريعة والواقع والدستور.. أما المخالفة للشريعة قول الله تعالي "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة".. وأما المخالفة للواقع فالدولة المصرية منذ الفتح الإسلامي بقيادة سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه مجتمع مسلم.. وأما المخالفة للدستور فالمادة فيه صريحة "الإسلام دين الدولة. والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". ولذلك ننصح وزير الثقافة ومن يماثله بالكف عن مثل هذه التصريحات التي تخدم المزايدين بالدين والمتربصين الساعين للانقضاض علي مقاليد الأمور في الدولة وهم فلول الإخوان والتيار السلفي الجامح.. فمصر ليست علمانية بالمفهوم الغربي كتركيا ولا تطبق ولاية الفقيه التي يتبعها ملالي إيران. الوسطية والاعتدال يقول د. عبد الغفار هلال الأستاذ بجامعة الأزهر إن الإسلام اشتهر بأنه دين الوسطية والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط في الدين.. فمصر إسلامية بنص الدستور وشعبها أغلبه مسلم ومعروف عنه إنه متدين بالفطرة أما أن يطلق عليه علماني بالفطرة فهناك تناقض شديد لأن العلمانية بمفهومها المتحرر تبيح كل شيء لأصحابها مثل زواج المثليين والزنا وهذا ما يبيحه الغرب العلماني.. فقوانين العلمانية تخرق كل الأديان لأنها تدعو للانفلات من المبادئ التي نصت عليها وتبيح مفهوم أن الغاية تبرر الوسيلة. إن العلمانية التي يجب أن نطبقها هي الأخذ بأسباب الحضارة والتقدم مع مسايرة الدين لهذه الحضارة.. فلا نفصل الدين وتعاليمه عن شئون الدولة بحجة أنه يتسبب في تأخر الأمة وعدم تقدمها حضاريا وعلميا وهذا يخالف الواقع تماما فالمسلمون الأوائل تقدموا وتسيدوا العالم عندما تمسكوا بتعاليم دينهم بينما أصابهم التأخر بعدما تخلوا عن بعض مبادئه.