هذه الرواية أحدث إبداعات الروائي الكبير محمد جبريل. وهي عن تجربة حياتية قاسية عاشها المبدع في العامين الأخيرين بعد أن أجري عملية جراحية في عموده الفقري. الرواية أقرب إلي السيرة الذاتية فضلا عن الجانب التسجيلي. وهي في مجموعها تعكس ما عاناه المبدع الكبير من أحوال واوجاع العلاج الطبي في بلادنا وذلك بعد أن أقعد المرض الكاتب الكبير وأفقده القدره علي الحركة إلي حد كبير ووسط الآلام المبرحة أبدع هذه الرواية. الحلقة السادسة حاولت الوقوف علي ساقي. لكنهما تخاذلتا. واجتذبتني الأرض. المثل يقول: إنه ليس هناك من يتمني المشي أكثر من الأعرج. تلك كانت أمنيتي في اليوم التالي لإجراء العملية. اعتدت الجلوس إلي مائدة الطعام. أو إلي المكتب. ساعات طويلة. المائدة الخشبية المستطيلة يكاد سطحها يختفي وراء الكتب والأوراق والأقلام. لا أحب الأوراق البيضاء. أفضل أوراق الدشت. اعتدت الكتابة عليها منذ بدأت العمل في الصحافة. ربما أهداني صديق أوراقاً مسطّرة. يتصور أني سأجد فيها بديلاً جيداً لأوراق الدشت. لكنني أهديها إلي زوجتي. أو إلي صديق يقصر كتاباته علي الأوراق البيضاء. أما المكتب فهو للكمبيوتر والشاشة والطابعة. والأوراق التي تنتظر التسويد. كان ذلك هو سبب المرض. تطول الجلسات الساكنة. ويحدث عدم الحركة تأثيره المدمر في جسدي. في العمود الفقري. لم أعد أستطيع الوقوف علي قدميّ. ولم أعد أستطيع الحركة أصلاً. اختلطت - في داخلي - مشاعر العجز والإشفاق والحب. وأنا أسلم جسدي لزينب. تلبسني الثياب. تدفع بالطعام إلي فمي. يغلبني التأثر المحب لما تفعله زينب. يداخله الحزن لعجزي عن تحريك ساقي. وعن فعل أي شيء. سألت الدكتور أحمد العوضي الطبيب المساعد في العملية: 1⁄4 هل احتجت إلي نقل دم؟ قال: 1⁄4 كيس واحد. 1⁄4 من المتبرع؟ حدجني بنظرة مستغربة. ولم يجب. تذكرت السيدة عطيات. قرأت اسمها علي كيس الدم الذي نقله الأطباء لي في عملية قرحة الإثني عشر بمستشفي عين شمس التخصصي. ظل الاسم في ذاكرتي. ومثل حافزاً لسؤالي عن اسم صاحب كيس الدم الجديد. أفكر في هؤلاء الذين ينقذون حياة المرء دون أن يعرفهم. أو يعرفونه. لا صلة إلا الانتماء للجنس البشري. * * * عند قدوم الليل. كنت ألاحظ في نفسي شعوراً محبطاً. أكره - بتأثيره القاسي - كل ما حولي. أكره حتي نفسي. أذكر تعبيراً لمحمد حافظ رجب في واحدة من قصصه ¢ الهم الثقيل¢. ذلك هو الشعور الذي كان يتلبسني أول كل ليلة. أظل خاضعاً لسيطرته حتي يزول من نفسه. أذكر أني حاولت تبين السبب فلم أوفق. رجحت أحد احتمالين: إما النوم بعد تناول الطعام. أو تفاعل الأدوية. وما أكثر ما أتناوله من جرعات الأدوية. أشعر - في بعض الأحيان - أن الموت قريب مني كما لم يحدث من قبل. أتنفس رائحته. أكثر من ترديد الشهادتين. أقرأ الفاتحة. وقل هو الله أحد. والمعوذتين. ثم أسلم عيني إلي النوم. أتوقع زيارة الموت في أثناء الليل. لا أعرف إن صحبني في هدوء. أم أعاني من عذاباته بما لا أطيق قبل أن أرافقه. أستلقي في غابة اليأس. تحوطني أشجارها السوداء. أشعر أن الحياة تنحسر في داخلي. وأن ما تبقي من الزمن ينتهي في الموت. يتملكني الهاجس بأن المكان الذي أشغله في الحياة. سيشغله - عقب الرحيل الذي أنتظره - شخص آخر. * * * لماذا يشيخ الإنسان؟ ولماذا يموت؟ الربط بين السؤالين غير دقيق. طال العمر. فانضم صاحبه إلي نادي المعمرين. وربما مات المرء في عز شبابه. الشيخوخة تفضي - بالضرورة - إلي الموت. لكن الموت لا يرتبط بالشيخوخة. إنه حالة خاصة. مغايرة. ترتبط بالجينات والأمراض والحوادث والانفعالات. وأشياء كثيرة هي التي تحدد موعد الوفاة. بصرف النظر عن السن. لماذا. وكيف يشعر الإنسان أنه قد آن الرحيل؟ في ذاكرتي وصية أمي لشقيقتي أن تعني بشقيقنا الأصغر. قالت: - خلي بالك من إخواتك. استطردت: - اهتمي بسعيد علشان صغيّر . ولما قدم أبي من عمله. فوجئ - وفوجئت في وقفتي خارج الحجرة - حين مالت أمي علي يده تقبلها: - سامحني يا لطفي.. تعبتك بمرضي. لا أعرف - حتي الآن - سر إدراكها إنها راحلة. تعي وتتحرك وتكلم. كيف تجلي لها الموت. الدكتور النجار طبيب القلب. والذي كان يصعد إلينا من شقته في الطابق الثاني. ليطمئن علي الحالة الصحية لأمي. روي أبي وأقاربي أنه أنبأهم بموعد وفاتها. باليوم الذي رحلت فيه. وطالبهم بألا يمنعوا عنها ما تريده من الماء. إذا كان الطبيب يعرف - إكلينيكياً - موعد الوفاة. فكيف يعرف المريض نفسه؟ ماذا يري؟ وبماذا يشعر؟ وهل يطالعه - كما يذهب الموروث - ملك الموت. يري كل منهما صاحبه دون أن يتاح ذلك لأحد آخر؟ نحن نحتفي بالموت. ونعلنه. ونعني به. ونخصص له الكثير من تعبيرات الدعاء والابتهال والحزن والأسي. وقراءة صفحة الوفيات هي أول ما ينشده غالبية قراء الصحف المصرية. ربما مات قريب أو عزيز. فيؤدي الواجب بالسير في الجنازة. أو حضور العزاء. وقد يكون الميت قريباً لقريب أو عزيز. فيحاول المشاركة بواجب العزاء. ولو ببرقية! * * * إذا تقدم عمر الإنسان. فإنه يألف مراجعة دفتر التليفون. يحذف أسماء الذين غابوا عن حياته. وأحياناً. ألاحظ في نفسي تأمل الناس من حولي: التكوينات الجسدية والملامح. يقفون. يسيرون. ينامون. يأكلون. يناقشون. يسألون. يجيبون. يعترضون. تعلو أصواتهم وتهمس. أعرف أنهم لابد أن يموتوا. في لحظة ما يسكن الجسد. ويحمل إلي القبر. فيتحلل ويندثر. تلك هي نهاية المشهد. تلك هي الحقيقة. فضلاً عن ذلك. فإني أطيل تأمل ما حولي: البنايات. واجهات المحال. الأشجار. الأرصفة. الشرفات. النوافذ. المآذن. القباب. الأبراج. اللافتات. النافورات. الباعة. زحام الطريق. الجلوس في عزلة. تلويحات الأيدي. أعرف أني - ذات يوم - سأرحل. وتظل هذه الكائنات باقية. لعل هذا هو السبب الذي دفعني لأن أتأمل البنايات في الطريق ما بين محطة القطار بدمنهور وبيت جدي في أبو الريش. أنظر - بعيني أمي - إلي البنايات التي كانت موجودة قبل رحيلها - أمي - في 1947. * * * كل إنسان معرض للمرض. وللموت. يرجع جارثيا ماركيث إلي سوفوكليس وجود الموت - بصورة واضحة - في أعماله. الموت في حياتي هو الذي جعل له دوراً واضحاً في أعمالي. التقيت الموت في مراحل متعاقبة من العمر. مات الكثير من أفراد أسرتي : أمي وأبي وثلاثة من أخوتي. ومات أقارب وأصدقاء وجيران. تابعت ¢ الحدث ¢ منذ ما قبل الوفاة. إلي لحظة الوفاة نفسها. إلي التأثيرات التي أعقبت الوفاة. لعل ذكري موت أخي الأصغر. وما أحاطته به أمي من طقوس قاسية. ثم موت جارنا. وفزعي المعلن من رؤيته مأخوذا . وحرص أخي الأكبر - فيما بعد - أن يكون ذلك المشهد هو كرة الثلج الصغيرة التي دحرجها من قمة الجبل - بتحذيراته المخوفة - لتتحول إلي كرة هائلة.. لعل تلك الذكري هي بداية تعرفي إلي الموت. تضخمت الكرة بتوالي حوادث الموت في حياتي. فلم أعد أطمئن للنوم حتي في الأماكن التي طالما نمت فيها منفرداً. بعد أن أطفئ النور. بل إن الهواجس تناوشتني حتي في أوقات النهار. أكثر من الملاحظة والتلفت. أتوهم - أعترف! - أطيافاً لأعزاء راحلين. قد يشعر المرء أن عمره طال. دون أعراض تذكّره بالنهاية المتوقعة. قد يتمني الموت. ربما لأنه فقد أعزاءه. وقاسي الشعور بالوحدة. في بالي أهل وجيران وأشخاص تغيب هوياتهم. تمنوا الموت خلاصاً من لا جدوي استمرار الحياة. أو تعبيراً عن السأم والملل. عندما دنت ساعة الموت. قال رامبو لشقيقته: سأواري تحت التراب. أما أنت فتسيرين في ضياء الشمس. الموت حادثة. نهاية قصة. أو حكاية. أو حدوتة. من المستحيل روايتها للآخرين. أتأمل التعبير: لو أنه في المستطاع أن يموت المرء أكثر من مرة. فلابد أن تتاح له فرص التدرب. هناك من ينتظرون الموت. لكن حياتهم تطول. يفاجئهم الموت. فيأخذ حياتهم. الموت لا يحتاج إلي خبرة من أي نوع. لأننا نموت مرة واحدة. لا أحد عاني الموت. لحظات ما بعد الرحيل. الأسطورة وحدها تتحدث عن البطل أديسيوس في ملحمة هوميروس الشهيرة. سكب الدماء في حفرة. ظلت أطياف الموتي تلعق ما بها من دماء. حتي تحولت الأطياف إلي أجساد تنبض بالحياة. بدأت في التحدث عن ظروف ما قبيل الوفاة. لا يشغلني الحب ولا الكراهية. ما يهمني هو الفهم. أن أفهم ما يحدث: هل الموت هو عدم الشعور بشيء؟ هل هو الغياب عما حولنا؟ أو يعاني من يواجهون الموت آلاماً قاسية؟ ما مصير الإنسان بعد الموت؟ ما الخير الذي يؤدي إلي الجنة؟ وما الشر الذي يفضي إلي النار؟ مهما تتعدد أسئلتنا عن الموت. فالحقيقة هي أننا نموت. الإنسان - منذ لحظة مولده - ينتظر - أو عليه أن ينتظر - لحظة الرحيل. ما بين اللحظتين قد يكون جميلاً. أو العكس. الحياة نهر يتجه إلي المصب. ومصب الحياة هو الموت. نحن نولد فنخرج إلي الحياة. لكننا نمضي إلي الموت. كل يوم يقربنا من ذلك اللقاء. الاطمئنان إلي الحياة لا يلغي اليقين بحتمية الموت. من حقنا أن ندافع عن حياتنا. إلا أمام الموت. القبول هو ما نملكه. وإن شغلنا السؤال: هل نتألم؟ نحن نتوقع الموت. لكننا لا نعرف موعده. لا نعرف متي نموت. تلك هي الهدية الجميلة - علي حد تعبير الفرنسية فرانسوا فايرجان - التي قدمتها الآلهة لنا. عمر الإنسان ما بين ميلاده وموته مثل التوقيت الذي يبدأ بلحظة الميلاد. وينتهي بلحظة الوفاة. تتواصل اللحظات في اتجاه النهاية التي لابد أن تأتي في موعدها. وإن لم يعرف المرء متي؟ لو أن المرء يعرف موعد موته. في ساعة محددة. في يوم محدد. بعد ألف سنة. فسيبدأ في العد من الآن. ولأنه قد يموت في اللحظة التالية. فإن الأمر لا يشغله. لأنه لا يعرف متي سيرحل. يحيا المرء - قبل الميلاد - في ظلمة الرحم. ويهبط - بعد الوفاة - في ظلمة القبر. قد تطول حياتنا. لكنها تظل قصيرة كومضة. * * * يقول ألدوس هكسلي: ¢ إذا كنت تخاف الموت. فسوف تموت بالتأكيد¢. لذلك فإن المرء يكون غبياً - والكلام لهكسلي - إذا لم يعد نفسه لحدث الموت. ويقول تشوان تسي: ¢ الحياة تلاحق الموت. وبالموت تبدأ الحياة¢. الميلاد يعقبه توالي النوم واليقظة. الليل والنهار. التغيرات الثابتة والطارئة. النجاح والإخفاق. حتي يأتي الموت نهاية لذلك كله. طبيعي أن يتعاظم الخوف من الموت بتقدم العمر. أو بالمرض. لكن انشغالنا بتلك الحقيقة - في حالتي تقدم السن أو المرض الشديد - يتسلل إلي الذهن برؤي وتخيلات وتوقعات. أشد مما يحدث في ظروف عمرية وصحية مغايرة. إذا كان الخوف من الموت يتملك المرضي. والمتقدمين في السن. فإنه - حتي في اللاوعي - يشمل كل البشر في هذه الدنيا. يعرفون أن الموت يأتي في لحظة غير متوقعة. فاجأني صديقي كاتب السيناريو الراحل أحمد عبد الوهاب بالقول: - يشغلني السؤال: متي أموت؟ - لماذا؟ - لو أني عرفت موعد موتي. فسأنظم حياتي لذلك. وقال لي عم مبدي جرسون قهوة فاروق: - كل يوم جديد هو خصم من عمري. الحياة قصيرة. ومن حقنا أن نعيشها بالطريقة التي نؤمن بجدواها. وليس بالطريقة التي يمليها الآخرون. * * * ماذا عن اللحظات التي تسبق الموت؟ اللحظات التي تنعكس في أقوال المرء - قبل أن يغادر الدنيا مباشرة - وتصرفاته؟ عرفت من شقيقي الأصغر أن أبي كان يترجم من العربية إلي الفرنسية حينما دعاه للنزول إلي أسرة من الجيران. كنا في الطابق الثالث. وكانت أسرة الجيران في الطابق الأول. صعدت الأم - أبلة عزيزة - من الشقة. لتجد أبي قد مات. وقال لي محمود ابن صديقي الشاعر الراحل عبد الله السيد شرف إنه كان يتابع حواراً بين أبيه وأحد الأصدقاء. قطع شرف حواره. وقال لمحمود: سيبنا دلوقت. وترك محمود الحجرة دون أن يدرك السبب. قضي الصديق علي حيرته. عندما وقف علي باب الحجرة المطلة علي ساحة ترابية. وهتف: عبد الله تعبان! وكان عبد الله السيد شرف قد مات. زميلي في الجريدة سيد عبده. أنهي عمله في سكرتارية التحرير. ثم طاف بكل الأقسام يصافح حتي من مضت أشهر دون أن يلتقيه. وعاد إلي بيته. يشكو من صداع حاد. فقد - بتأثيره - النطق. وشخص الطبيب ما حدث بأنه انفجار في المخ. أمثلة أخري كثيرة. تشي بأن الراحل مات بسره حسب التعبير الذائع. لم يتحدث عما دفعه إلي المطالبة بإبعاد الابن عن المكان الذي سكنت فيه أنفاسه: هل شاهد شخصًا. أو شيئاً. أو رؤيا؟ هل أتاه هاجس. أو أمر. فحاول أن يجنب صغيره ما سيحدث؟. ابعدوه! هتاف سمعته من أمي. ومن شقيقي. قبل أن يرحلا. لا أعرف إن كان ثمة شخص طالبا بإبعاده. أم أن الفعل أقرب إلي هذيان محموم؟