أحب السفر إلي بلاد الله خلق الله. للمشاهدة والتأمل والاكتشاف والدهشة واكتساب الصداقات. أوافق علي الفكرة حالاً. لا ألجأ إلي مفكرة مواعيد. ولا إن كنت مرتبطاً بأحداث خاصة أو عامة. شرطي الوحيد ألا تطول فترة الرحلة عن أيام محددة. غايته أسبوع. إذا طالت المدة. فإن ذلك الشعور الغريب القاسي. المسمي "الحنين" يناوشك. يسيطر علي تفكيرك. فتهمل الأشياء- مهما تكن جميلة- وتقصر اهتمامك علي سؤال وحيد: متي العودة؟ ألاحظ في نفسي أني إذا نمت مبكراً. لأستيقظ مبكراً. أتجه إلي المطار في الموعد المحدد. جفاني النوم. أظل مستيقظاً حتي الصباح. ربما أخذني النوم أول الليل. لكن الخشية من فوات الموعد تسرف في إلحاحها. فأظل يقظاً حتي يأتي موعد المغادرة. أتجه إلي حيث المهمة. والجسد مرهق. والذهن مشوش. وكان نومي المبكر لغير ذلك. حين أعد حقيبتي لرحلة ما. فإني أضع فيها من الكتب ما أتصور أني سأقرأه في مسافة الرحلة. أقيس المسافة بالوقت. ثمة ساعتان في القطار من القاهرة إلي الإسكندرية. وحوالي أربع ساعات من القاهرة إلي سوهاج. والطائرة من القاهرة إلي الجزائر يمتد وقتها خمس ساعات. يتخللها الترانزيت. أقلب الكتاب في يدي. أتعرف إلي عدد صفحاته. أحاول تخمين ما أستطيع قراءته. ربما تنتهي الرحلة دون أن أتم ما كنت أعددته للقراءة. وربما تنتهي الرحلة- ذهاباً وعودة- قبل أن أقرأ الكتب التي أعددتها. أرفض لحظات الوداع. لا أحبها. مشاعري سهلة التأثر. دموعي قريبة. كما يقول التعبير الشعبي. مجرد أن أمد يدي بالسلام مودعاً. حتي يغلبني التأثر. وما ينتج عنه من لعثمة وارتباك وعجز عن منع البكاء. أكتفي بالكلمات. لا أصافح. أو ألجأ لتصرف قد يعلو بالمشاعر إلي ذروة معلومة النتائج. انطلق إلي المطار بمفردي. أسافر دون وداع. ثمة مدن أزورها مرة وحيدة. لكنها تظل في الذاكرة. لا تغادرها. وثمة مدن تتكرر زياراتي لها. فتعبرها ذاكرتي. لا أستعيدها إلا في مناسبة تتصل بزياراتي لها. عدا بحري الذي استقر داخل الوجدان. فإن مسقط حبي الذي لا يرقي رليه حب مدينة أخري. لا موضع آخر في العالم. أعني مسقط القديمة التي تركتها مدينة تراثية. أثرت خيالي بما دفعني إلي الكتابة الابداعية. أعرف أنها تطورت مدنياً. وأخذت صورة التقدم كما في مدن العالم الحديث. لكن مسقط التراث هي المدينة التي لا تغادر وجداني. ولا ذاكرتي. أحببت بواباتها الثلاث. وشوارعها الضيقة. وقيسارياتها. ونوافذها التي تكاد تتلامس في تقابلها. ومساجدها. وما تعرضه الدكاكين من بضائع الشرق والغرب. ما ينتسب إلي التراث الإسلامي والعربي. وما ينقل حداثة الغرب. نواكشوط. العاصمة الموريتانية. هي المدينة التي تنافس مسقط في حبي لها: الدراعة. وزي الطوارق. والخيام. والأسواق الشعبية. وأفلام العرض المستمر. الخالية من الرقابة. ونحن بنات طارق. نمشي علي النمارق. والقول إن كل خيمة أنجبت شاعراً. أحب الأسفار إطلاقاً. أرفض أن ترتبط بتقدم العمر. ولعلنا نتوق إليها في مراحل العمر الباكرة. الذكريات الصغيرة. المشاهد الوامضة. العلاقات العابرة. هي التي تهب الحياة معناها. وقدرتها علي المواصلة.