"قانون الانتاج".. لجنة النشاط المعادي لأمريكا.. "التصنيف العمري" "وسام الاحتشام".. أشكال متنوعة للرقابة.. التصدي للشيوعية والحروب العدوانية وحماية القيم الأخلاقية.. أهم التبريرات. في الربع الأول من القرن العشرين وحتي الخمسينيات قبل دخول التليفزيون كمنافس قوي لصناعة الفيلم رغم ارتباطه الشديد بها. فرض أساطين السينما الكبار "وكلهم من اليهود المهاجرين" سيطرة طويلة وممتدة طالت جميع فروع صناعة الفيلم وألقت بظلالها علي أنواع الأفلام التي يتم انتاجها.. فبقي التيار الرئيسي المهيمن علي شباك التذاكر راسخا.. صناعة الفيلم في هوليود في تلك الفترة لم تكن تشجع الأفلام الفنية المثيرة للجدل. ولا الأعمال المبتكرة المغايرة للقوالب التقليدية ولا الأعمال التجريبية. كانت هناك محظورات مفروضة لضمان تدفق العوائد والأرباح والنتيجة تقاعس المنتجون عن التجريب. والهدف تحقيق المزيد من الاستقرار للانتاج ومن ثم استمرار انتاج الأنواع المألوفة. وتقديم النجوم المحبوبة. والحكايات الجذابة وسائر عناصر الجذب الأخري المرتبطة بفترة "نظام الاستديو". ومع النجاح الضخم وحالة الاستقرار النسبي لأساطين السينما الكبار إبان حقبة العشرينات من القرن العشرين يصبح مفهوما لماذا اتجهت البنوك للدخول في مجال هذه الصناعة وفي نفس الوقت الإحجام عن تمويل المنتجين المستقلين. واستمرت هوليود في انتاج الأفلام علي نطاق واسع بدعم من بنوك مستعدة لضخ أموال في التيار الرئيسي لصناعة الفيلم بأنواعه المعتمدة علي النجوم ممن يتمتعون بجماهيرية كبيرة مضمونة بدلاً من المخاطرة بأموال في سينما مستقلة وبعد أن تمكن الأساطين الكبار الحاكمون لهذه الصناعة من إزاحة أي شكل من أشكال التنافس. ولكن المشكلة الأخري التي بدأت تواجههم جاءت من مصدر آخر شديد القرب. من العاملين أنفسهم في استديوهات السينما. وبعضهم أصبحوا من الأثرياء "النجوم النجمات" والثراء ليس فقط ماليا وإنما أيضا فنيا وشعبيا؟ فهم أصحاب مواهب ولهم سطوة علي جمهور السينما ولا يمكن استبدالهم. ومنذ البداية تنافست الشركات الكبري علي احتكار أكبر عدد من النجوم. كثير منهم جاءوا من المسرح بفضل غواية السينما باعتبارها الأكثر انتشارا ونجاحا علي المستوي التجاري. استفادت هذه الفئة المهمة من صناعة الفيلم. وازداد نفوذهم في مواجهة مُلاك الصناعة. وأصبحوا يملكون "كلمة" في تحديد مطالبهم. والواقع أن "نظام نجوم" قاد إلي تأسيس شركات سينمائية كبري مثل "يونايتد أرتست" التي استطاعت أن تجذب نجوما كبارا مثل شارلي شابلن ودوجلاس فيابنكسي قبل أن يصبح هو نفسه فنانا ثريا يستطيع أن يؤسس لنفسه شركة انتاج خاصة به وان يتعاون من خلالها مع مخرجين كبار ومشهورين.. عملاقة منذ الطفولة في وقت مبكر جدا أصبحت صناعة الفيلم في هوليود صناعة عملاقة. ولم تكن مجرد سلعة ترفيهية فقط حتي بالنسبة للرواد الأوائل. فهي صناعة ذات تأثير قوي جدا ومباشر علي مئات الملايين.. "البلايين لاحقا" إنها وسيط نافذ وأداة أيديولوجية وتعبيرية فعالة ومن ثم أصبحت بسرعة شديدة موضوعا يحتاج إلي رقابة. في العشرينات بدأت المخاوف تتزايد إزاء الانتاج السينمائي الذي ينتج أعمالا تخلط الخيال بالواقع وتصنع شخصيات و"رموز" تدحض أساليب الحياة القديمة وتزدري بعض أشياء الحياة علي نحو يهدد سلامة المجتمع. هذا الدور الاجتماعي الهدّام الذي يمثله وسيط الفيلم فتح الباب أمام دور الرقابة كموضوع سياسي مهم يراقب صناع الأفلام ومحتوي الأفلام ولكن ذلك كان قبل فترة الستينيات وما شهدته من تغيرات اجتماعية وسياسات راديكالية. هذا التوجه نحو إيجاد رقابة علي الأفلام كان مدعوما بشقين: الظنون والمخاوف داخل وخارج هوليود من الشيوعية ونشاط اليسار السياسي. ومحاولات تشجيع تقديم الجنس والعنف وأشياء أخري تجافي الحشمة والسلوك المهذب وتنشر معها الأ فكار التي تسعي لهدم قيم الأسرة والمجتمع وتقوض منظومة القيم عموماً. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بين القطبين الأكبر الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة تكونت "لجنة النشاط المعادي لأمريكا" أو لجنة الشاط غير الأمريكي التابعة للكونجرس بهدف التصدي للتأثير الشيوعي والأفكار اليسارية وإذا ما تركت الأمور علي عواهنها ويعتبر السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي القوة الضاغطة التي تزعمت الحرب ضد الأفكار الشيوعية. وكان الهاجس الملح وقتئذ الحد من تسلل الفكر الشيوعي إلي صناعة السينما الأمريكية في هوليود. فأصبح حتميا أمام مجلس النواب مراقبة مضامين الأفلام وذلك بعد الدعاية السيئة التي أحاطت بالتحقيقات التي تمت مع كتاب وأساتذة كبار يساريين وإدانتهم والحكم عليهم بتهمة إزدراء الكونجرس.. ومنهم الكاتب آرثر ميلر 1915- 2005 والمخرج إليا كازان إلي جانب مئات آخرين من الكتاب والعاملين في السينما تم وضع أسمائهم في قوائم سوداء بهدف تطهير الصناعة. عند الشعور بالخطر من الطبيعي ان تتحرك الدولة لحماية نفسها. فكما تشير هذه القوائم السوداء التي شهدتها فترة الخمسينيات من القرن الماضي. لم يعترض وقتئذ كثيرون ولم تجد نشاطات "لجنة النشاط المعادي لأمريكا" مقاومة قوية علي الأقل من قبل مديري الاستوديوهات الذين يسيطرون علي شئون الصناعة. ولم تكن وجهات النظر من قبل النقاد داخل هوليود وخارجها تعبر عن اختلاف بيّن. بل كانت الخلافات أقل مما يمكن تصوره. وقبل التحقيقات التي أدارتها لجنة النشاط غير الأمريكي بفترة. وتحديدا في الثلاثينات خرج ما يعُرف بقانون الانتاج "produetion code" الذي أقرته وقامت بتبنيه صناعة السينما عام 1930 كنوع من التنظيم الذاتي للصناعة. وقانون الانتاج لم يكن ينشغل بالأمور السياسية في حد ذاتها وإنما بالأمور العامة في مقدمة "القانون" تأكيد علي القيمة الفنية للفيلم السينمائي.. وأما باقي القانون فيعتبر إقرارا لقواعد عامة تحدد الأشياء التي يمكن أو لايمكن عرضها علي الشاشة ومن الأشياء التي يقرها أن الترفية والفن أمران مُهمان جداً في حياة الأمة. وأن الأفلام السينمائية في حد ذاتها وسيلة ترفيهية يمكن أن تكون مسئولة مسئولية مباشرة عن رفع الروح المعنوية والروحية في شتي مناحي الحياة الاجتماعية وأيضا عن جانب كبير من تصحيح الأفكار ونشر القيم الجمالية وتأكيد مصادر البهجة. من القواعد التي يؤكد عليها القانون عدم تقديم الجرائم علي نحو تفصيلي ظاهر. كما لا يمكن أن يصحبها تبريرات لارتكابها ولا أن تقدم بأسلوب محبب وجذاب ونفس الشيء بالنسبة للخيانة الزوجية. ويتضمن القانون أيضا عدم إبراز مشاهد الشغف العاطفي ولا يجب تقديمها إلا إذا كانت ضرورة للحبكة. وبشكل عام لا يجب أن تعالج هذه المشاهد بالأسلوب الذي يحرك الغرائز.. أيضا ممنوع تقديم العُري الكامل سواء للمرأة أو الرجل. إن "قراءة" قانون الانتاج يعطينا تصوراً واضحاً عن حجم التغيرات الهائل التي طرأت علي المجتمعات.. والمجتمع الأمريكي يعتبر نموذجا والأفلام الامريكية نفسها مرت بمراحل تكشف المدي الذي وصل إليه هذا التغيير. ومن أكثر الأشياء أهمية وتعبيرا عن القدرة علي التنظيم الجيد ما أقرته هوليود فيما يسمي ب "وسام الاحتشام" أو اللياقة "legion of Decency" ويشير إلي منظمة أو مركز داخل الكنيسة الكاثوليكية "شبيه بما يقوم به المركز الكاثوليكي في القاهرة" مع الفارق أن هذه المنظمة تهدف إلي ممارسة ضغوط علي صناعة الفيلم من أجل الالتزام بنص وروح القواعد التي أقرها "قانون الانتاج" و"الوسام" يحدد مستويات الرقابة علي الأفلام بين مسموح للجميع "أ" أو الكبار "ب" أو ممنوع "إكس". هناك دور للكنيسة الكاثوليكية في أفلام هوليود وللمؤسسات الدينية باختلاف مذاهبها بهدف توجيه المتفرجين وإن بدا هذا النفوذ مزعجاً. لقد ظل "قانون الانتاج" ساريا حتي عام 1966 ثم حل محله عام 1968 قانون التصنيف الرقابي للأفلام وفق المراحل العمرية للمتفرجين وهو قانون تحترمه نسبة كبيرة من دور العرض في الولاياتالمتحدة وإن ظل اختياريا بالنسبة لمعظمها. السينما كانت وسوف تظل محورا بالغ الأهمية في جعل الثقافة الشعبية وتأثيرها يطول الظواهر الاجتماعية والتوجهات الايدولوجية ولا شك أنها سلاح يستخدمه أصحاب رؤوس الأموال والمنظمات والتنظيمات والأجهزة الرجعية والمؤسسات الدينية والأحزاب السياسية والدول. إنها بالفعل سلاح في معارك الأفكار وفي تسخين الحروب الباردة وإشعال الحروب الساخنة ومن ثم لا يمكن أن تتركها الدول هكذا.. لا ينفي هذا الدور أن للسينما طبيعتها الفنية وإمكانياتها في إشاعة الجمال وتكريس مظاهره إنها فن الفنون ورسول القيم الجمالية وباعث البهجة ومجدد الروح المعنوية وشاهد علي تاريخ الشعوب وتطورها وحجم ما يصيبها من تغيرات.