أنجبت مصر عباقرة كثيرين في الأدب والشعر والنقد والفكر والفلسفة والترجمة والسياسة والصحافة.. لكنها أنجبت عبقرياً واحداً جمع كل هذه الفنون والصنائع.. وكان رائداً ومتفوقاً فيها بلا منازع.. إنه العبقري.. صاحب العبقريات.. عباس محمود العقاد الذي توفي في مارس 1964 وتحيي مصر ذكراه الخمسين هذه الأيام. حضر العقاد اسمه في سجل الخلود بما أضافه للفكر العربي من عمق وأصالة.. وبما فتح من نوافذ علي الفكر العالمي الحديث بما يحمل من تيارات متلاطمة.. أضف إلي ذلك قدراته الفذة كأديب وناقد مجدد وسياسي جسور شد إليه الانتباه عندما كان عضوا في البرلمان وهدد بسحق أكبر رأس في البلد تحت حذائه إذا اعتدي علي الدستور. والحقيقة أنك لو أردت أن تقترب من العقاد فلابد أن تحتار : من أي الأبواب تدخل إلي هذه القلعة الشماء؟! منذ أيام أقامت لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلي للثقافة ندوة تحت عنوان "أضواء علي فكر العقاد".. وبعد أيام ستقيم هيئة قصور الثقافة احتفالية كبري في أسوانمسقط رأسه بعنوان "العقاد عملاق الأدب.. خمسون عاماً من الحضور المتجدد".. وفي يقيني أن الندوة والاحتفالية ليستا بقدر قامة العقاد وقيمته المتعددة المشتعبة.. وقد ظلموه عندما قالوا عنه عملاق الأدب.. لأنه في الواقع كان عملاقاً في كل درب سار فيه فأتقنه وجدده ومهده للقادمين من بعده. أحببت في العقاد قدرته الفائقة علي الجمع بين القديم والجديد.. الأصالة والمعاصرة.. وأحببت فيه شموخه واعتزازه بعروبته وإسلامه.. وأنه لم يهتز أمام التفوق الحضاري للغرب كما فعل كثير من أقرانه الذين تتلمذوا علي أيدي المستشرقين فانبطحوا علي وجوههم.. وغرتهم نظريات هؤلاء المستشرقين فاستداروا يوجهون سهام النقد والتشكيك الي تراثهم وتاريخهم.. أما العقاد الذي لم يتعلم في جامعة ولم يسافر للخارج فقد علم نفسه بنفسه.. وواجه هؤلاء المستشرقين وأذنابهم بالحجة والبرهان لإنصاف أمته وتاريخها وفكرها وتراثها المجيد.. ووضع الكثير من الكتب التي تزيل الغبار عن هذا التراث وتنقيه من الشوائب. ولقد خاض قلم العقاد في أوسع وأعمق مجالات الكتابة.. كتب في الوطنية والسياسة.. وكتب في اللغة والأدب والنقد.. وفي العقائد والديانات.. ودافع عن الإسلام ورد كيد خصومه ونقض مزاعمهم وأباطيلهم.. كما كتب في الفلسفات والمذاهب الفكرية القديمة والحديثة.. وكتب في التاريخ وسير العظماء.. وفي كل ذلك كان باحثاً مدققاً محكم الأسلوب قوي العبارة. من أجمل كتب العقاد كتابه "أنا" وهو سيرة ذاتية عن حياته.. وكيف بدأ القراءة وكيف تفتحت عيناه علي الحياة وكيف استطاع أن ينقل إيمانه من مرحلة الوراثة الي مرحلة الشعور ثم اليقين بعد تفكير طويل.. ثم إن العقاد اشتهر بعبقرياته : "عبقرية محمد.. عبقرية الصديق.. عبقرية عمر.. عبقرية خالد.. حياة المسيح". لكن ربما لم يتوقف كثيرون عند العقاد الشاعر الذي قدم للمكتبة العربية عشرة دواوين تعبر عن روح شفافة وعاطفة جياشة وقدرة هائلة علي التعبير العذب عن النفس الإنسانية رغم كل ما يقال عن صعوبة أسلوبه ووعورة أفكاره. وقد تعجب إذا علمت أن د.طه حسين نادي بالعقاد أميراً لدولة الشعر العربي الحديث في حفل كبير أقيم بمسرح حديقة الأزبكية في القاهرة مساء الجمعة 27 أبريل 1934 بمناسبة تأليفه النشيد القومي.. وشهد هذا الحفل عدد كبير من الساسة والأدباء والمفكرين.. وقال طه حسين أمام الجميع : "إنني أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء". كان العقاد صاحب مدرسة تدعو لتجديد الشعر.. مدرسة الديوان.. التي شاركه فيها زميلاه ابراهيم عبدالقادر المازني وعبدالرحمن شكري.. وقد تناولا بالنقد اللاذع كثيراً من شعراء عصرهم خاصة أمير الشعراء أحمد شوقي وحافظ ابراهيم.. ومن خلال هذه المدرسة وضعوا قواعد التجديد والتطوير للشعر حتي يكون ملائما للعصر. ويستحق العقاد من مصر أكثر من ندوة وأكثر من احتفالية.. وأكثر من مجرد مقالات صحفية.. يستحق أن تقدمه للأجبال القادمة من كل جوانبه حتي يثقوا في أن مصر الولود أنجبت في يوم ما هذا العبقري العصامي الذي بلغ في المجد ما لايبلغه الملوك والحكام.