العقلاء والحكماء في كل زمان يتطلعون إلي ما يجري علي أرض الواقع من أحداث فيستوعبون دروسها بجوانبها المختلفة. ولا يتوقفون عن هذا العمل فحركتهم دائمة وهم يضعون نصب أعينهم قول الله تعالي: "أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع" فنراهم يمضون مع ما استقر في نفوسهم من الإيمان. ولا يحيدون عن الاستجابة لهذا النداء الذي ملك عليهم كل وجدانهم. ولا يتحركون قيد أنملة عن مواقفهم مهما تكن المغريات. أو أمتعة الحياة بزخارفها. قلوبهم مطمئنة إلي أن النهاية دائماً تكون في جانبهم. ومن يتأمل قصص السابقين وفي مقدمتهم الطاغية قارون يجد أن هذه الحقائق مجسدة علي أرض الواقع. هذا الرجل كان من أولئك النفر الذين رفضوا الانصياع لنداء الحق والسير في طريق الإصلاح. ورغم أن الله قد أفاء عليه بنعمة المال الكثير وأغدق كذلك عليه بنعمة الصحة وكيفية جمعه وتنميته بأساليب فتح الله عليه كنوز معرفته ابتلاءً واختباراً لكي يتعرف علي سلوكيات هذا الرجل وهل سيشكر هذه النعم بالحفاظ عليها والابتعاد عن ارتكاب الآثام التي تؤدي إلي زوالها وفي المقام الأول لهذا الاختبار هل سيشكر رب العالمين الذي رزقه العلم والمال أم سينقلب علي عقبيه ويتنكر لكل ذلك؟ ورغم أن قارون كان ابن عم سيدنا موسي عليه السلام إلا أن الفارق بينهما كان شاسعاً. فموسي كان يدعو إلي الله علي بصيرة أما قارون فقد زعم أن الله أعطاه المال وهذه النعم لعلم الله بأن هذا الطاغية يستحق المال وأنه أهل لذلك. إن ذلك بلا شك قلب للحقائق حيث قال إن المال اكتسبته عن علم ومعرفة بوسائل اكتسابه دون اعتراف بفضل الله في هذا المجال. ولم يدرك أن كثيرين من أمثاله سلكوا هذا المنهج ورغم أنهم كانوا أشد منه قوة إلا أن الحق تبارك وتعالي قد أزال ملكهم في لحظات خاطفة. ولعلنا نلمح ذلك فيما يجري علي أرض مصر وما حولها فقد أطاح الله بعرش وسلطان كان الكثيرون يعتقدون أن زحزحة هذا الحكم مجرد حلم لا تستوعبه الأذهان لكن في كل الآفاق وعلي مرأي ومسمع من كل الناس كان المشهد مدوياً عالمياً فقد أطاح الله بهذا الصولجان في دقائق معدودة. ليتنا جميعاً علي مستوي الأفراد نستوعب هذا الدرس الفعال وليتنا أيضاً ندرك أن الرقيب الأعلي لن يغفل عما يعمل الظالمون. فمن كان يحلم ولو مجرد حلم أن الذين كانوا يملأون الدنيا وعلي شاشات الفضائيات أحاديث ويرفلون في أثواب السعادة سوف يجلسون خلف القضبان ويطلبون خدماً ولو من المساجين لكن ضاع هذا الأمل. وجاء الرد "نأسف لائحة السجون لا تسمح". سبحان الله. إنه مالك الملك "فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام" 47 - إبراهيم. وفي ثنايا هذه القصة التي ذكرها الله في آيات سورة القصص نجد أن أهل الإيمان دائماً في طريق الحق فعندما خرج قارون في هذا المظهر الشيق المحبب لذوي النفوس الضعيفة ومن يتعلقون بزخارف الحياة الزائفة قال أهل اليقين الراسخ لأولئك الذين لديهم شبق التطلع إلي زينة الدنيا: إن الثواب الأعظم الذي ادخره الله لعباده المؤمنين أفضل من ذلك بكثير ولا تغرنكم هذه المظاهر فكل شيء زائل. لكن هؤلاء لم يلتفتوا لذلك وضربوا بهذه الأقوال عرض الحائط وظلوا في غيهم واستمروا في تطلعاتهم ولم يفيقوا إلا بعد أن شاهدوا زوال سلطان قارون في لحظات خاطفة وفطنوا أن ما قاله أهل الإيمان هو منهج الصلاح وطوق النجاة لمن أراد أن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة. ومن الطرائف التي ترويها كتب التفسير حول قصة موسي مع ابن العم قارون. إن موسي كان وسط قومه الذين آمنوا برسالته يدعوهم إلي عبادة الله ويذكر بنعم الله عليهم إذا بقارون يخرج علي القوم في زنينة فلما رآه الناس انصرفت وجوههم عن موسي وأخذوا يتطلعون نحو قارون وزينته التي ظهر بها وذلك شأن النفس البشرية دائماً تهفو بالإنسان نحو تلك الزخارف وذلك النعيم. وبعد ذلك استدعي موسي قارون لسؤاله عن أسباب خروجه بهذا المظهر وإصراره علي أن يبدو كذلك أمام الناس جميعاً وكان هذا الحوار بينهما: موسي: ما الذي دفعك لهذا العمل الذي فعلت؟ قارون: ياموسي إن كنت فضلت عليّ بالنبوة فأنا قد فضلت عليك بهذه الدنيا. ورغم أن موسي قد استشاط غضباً لتلك الكلمات التي ذكرها قارون في هذا الحوار القصير إلا أن نقمة الله كانت في انتظار هذا الطاغية وحينما شاهد موسي ما حدث لقارون كان لسان حاله يلهج بالشكر لله عز وجل أن وفقه للطريق المستقيم. وذلك فضل يمنحه لمن يشاء من عباده. ولعل هؤلاء الذين يريدون الدنيا وزينتها يدركون أن الدار الآخرة يدخرها الله للذين لا يريدون علواً كما فعل قارون ولا يطمحون في فساد كما يفعل أمثال قارون. وأن العاقبة دائماً في صالح هؤلاء المؤمنين. ولذلك كان أهل الإيمان علي صواب حينما نبهوا إلي ذلك حين دقوا ناقوس الخطر وقالوا للذين يريدون زينة الحياة الدنيا "ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون". وتلك الأمثال وهذه القصة يسوقها الله لكل ذوي العقول والأفكارو إن من يتكالبون علي الدنيا سوف يركعون تحت أقدامها. وقد رأينا جميعاً بأعيننا هذا السقوط المدوي لعرش حاكم مصر في دقائق معدودة فهل نتدبر الأمر ونتدارك مسيرتنا لكي نصححها نحو الطريق المستقيم. ليتنا جميعاً ندرك أن العلو والفساد والغرور ينتهي بصاحبه إلي الهاوية في الدنيا وناهيك عن عذاب الله في الآخرة. "إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد". وليتنا نلتفت بسرعة إلي ما يدور حولنا ونعلم علم اليقين أن من استجابوا للحق استقرت الحكمة والإيمان في قلوبهم. وأن من أعماهم الطمع عصف بهم زلزال الله سبحانه "ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" والله يهدي من يشاء إلي الطريق القويم. ربنا هب لنامن لدنك رحمة وهييء لنا من أمرنا رشداً.