كثير من الأسئلة والخواطر قفزت في رأسي بينما أجلس قبالة هذا المخرج الصيني العظيم - زانج بييمو - الذي استضافه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير "27 نوفمبر - 5 ديسمبر". السؤال الأول يدور حول كم التواضع الذي يميز هذا المخرج الذي يعتبر واحداً من أهم المخرجين في العالم اليوم. حصل علي عدد كبير جداً من الجوائز منها جائزة أحسن مخرج من الجمعية الأمريكية لنقاد السينما عن فيلميه "البطل". و"منزل الخناجر الطائرة" وأحسن مخرج من جمعية النقاد بواشنطن في أمريكا وجائزة الديك الذهبي التي تعادل الأوسكار في الصين وفي اليابان فاز بجائزة أحسن فيلم أجنبي عن فيلمه "الطريق إلي الوطن" جائزة الاتحاد الدولي للنقاد "القبرسي" في أسبانيا عن فيلم "الأوقات السعيدة" وجائزة أحسن فيلم في مهرجان طهران عن فيلم "الطريق إلي الوطن" وعن نفس الفيلم فاز بجائزة الدب الفضي في برلين حصل أيضاً علي جائزة الأسد الذهبي في فيينا وجائزة مهرجان شنغهاي وجائزة الأكاديمية البريطانية وجائزة مهرجان كان السينمائي الدولي وجائزة الكوندور الفضي من الأرجنتين وجائزة الأوسكار عن فيلم "ارفعوا المصباح الأحمر" إلي جانب عدد من أهم الجوائز الأخري حصل عليها هذا الفيلم نفسه الذي يعد من أجمل أفلامه. وجائزة الأوسكار مرة ثانية عن فيلم "جودو" وهو الفيلم نفسه الحاصل علي جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان الفرنسي والمجال لا يتسع لذكر جميع الجوائز التي حصل عليها هذا المخرج الذي بهر مئات الملايين من العالم بإخراجه لافتتاح الدورة الاوليمبية التي نظمتها الصين عام 2008 في استاد "عش العصفورة". عن هذه المناسبة العالمية سجل المخرج الأمريكي الشهير ستيفن سبلبرج شهادته عن عبقرية هذا المخرج في مقال نشرته مجلة تايمز الأمريكية في 17 ديسمبر 2008 وترجمته الناقدة سهام عبدالسلام ضمن الكتاب الذي أصدره مهرجان القاهرة هذه الدورة عن زانج ييمو. يقول ستيفن سبلبرج عن نظيره الصيني: "لقد أبدع زانج ييمو أعظم العروض الجديرة بالمشاهدة في الألفية الجديدة. وقد شاهدها نحو ثلث سكان العالم. وقد علت قامة زانج ييمو بسبب هذا العمل إلي حد لم يطاوله أي من رفاقه". لقد تعمدت ان أتوقف أمام أهمية وقيمة هذا المبدع حتي أطرح السؤال التالي. كيف تخلو الندوة مع هذا المخرج الذي ذاع صيته في العالم كله من النقاد المصريين ومن المخرجين والمصورين في مصر.. فلم يحضر سوي المصور المصري المحترم والموهوب رمسيس مرزوق واثنين فقط من نقاد السينما المصريين. تزول الدهشة ان النقاد المصريين غابوا أيضاً عن ندوة نظمتها الناقدة صفاء الليثي حول التهديدات التي تواجه النقد السينمائي المطبوع بسبب النقد الالكتروني الذي بدا ينتشر بقوة. وادار المناقشة إلي جانب رئيس منظمة النقاد الدوليين "الغيبرسي" وهو الناقد الألماني كلاوس إدر الناقدين سيد سعيد ومحسن ويفي. ويفترض ان جمهور المهرجانات الدولية يختلف عن الجماهير المستهلكة للسينما التجارية السائدة. ولكن سياسات التوزيع في بلادنا لن تفسح أي مجال لسينما أخري إلي جانب الفيلم الهوليودي. ولا يوجد في مصر نوافذ تستدعي تجارب من دول العالم المختلفة غيرما تقوم به بعض الاجتهادات الفردية من قبل نفر قليل وجداً من العاملين في حقل السينما مثل المنتجة ماريان خوري التي تنظم بانوراما للسينما الأوروبية سنوياً. ومثل النشاطات النادرة التي تسعي لانجازها قليل من المراكز الثقافية الأجنبية بالاضافة إلي اتحاد السينما المصريين الذي يعرض تجربة فيلمية من هنا وهناك كلما سنحت الفرصة. الأيام القادمة سوف تشهد هجمات متوالية وقد تكون موجعة فعلاً علي الثقافة الوطنية علي الهوية الثقافية التي ظلت مصر وعاصمتها "القاهرة" تباهي بها في محيطها الاقليمي.. وإرهاصات هذه الهجمات تلوح بأشكال تثير الفزع فعلاً وتهدد حرية التعبير والفنون البصرية وأشكال التواصل المختلفة عبر الوسائط الجماهيرية. الايديولوجية والفن وتجربة المخرج زانج ييمو تجسد حالة الاضطهاد والقمع والاقصاء التي يتعرض لها المبدع في ظل النظام الشيوعي الايدولوجي الجامد واثناء الاضطرابات المتشنجة للثورة الثقافية في ستينيات القرن الماضي حين اشتد الصراع الثقافي ووصل لحد طرد هذا المخرج من المدرسة وارساله للعمل في المصانع والحقول كغيره من شباب الصين حتي يعاد تربيتهم وتأهيلهم من جديد للتأقلم والتفاعل مع الصين الاشتراكية.. تجربة مشابهة حدثت في إيران مع اختلاف الايديولوجية. لقد ظل زانج ييمو يكدح مع المزارعين لمدة ثلاث سنوات. ونقل فيما بعد إلي مصنع للنسيج حيث عمل لمدة سبع سنوات وبينما كان يعمل في هذا المصنع باع دمه أكثرمن مرة ليشتري به أول كاميرا امتلكها في حياته.. زانج من أسرة ميسورة والده كان ضابطاً في جيش الكومنتانج لشيانج كي شيك. ومن ثم اعتبرته السلطة الشيوعية ملوثا. يقول ستيفن سبلبرج في مقاله عن زانج ييمو: تحيط الكثير من الاساطير بصعود زانج ييمو إلي أعلي عليين علماً بأن أول وظيفة عمل بها كانت وظيفة عامل بمزرعة ثم عمل بمصنع نسيج. لكن اكثر ما يهمني ويمتعني القصة التي تقول انه ظل يبيع دمه لفترة زمنية طويلة ليكسب من النقود ما يكفيه لشراء أول كاميرا امتلكها عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره. ويعتبر في سن اكبر بكثير من سن البدء في دراسة الاخراج السينمائي كما كان ينقصه الكثير من الامكانيات الضرورية لهذا العمل. ولكنه قدم ألبوم الصور الفوتوغرافية التي التقطها وكان فيما يبدو يعكس مقدرة ابداعية بصرية مدهشة أهلته للقبول في الاكاديمية في قسم التصوير. وزانج ييمو ليس فقط مخرجاً فذا ولكنه مصور سينمائي مبدع وصاحب أسلوب فريد في التعامل مع الالوان والمناظر وهو أيضاً ممثل وتجربته في السينما ومشواره المزدان بعدد مهول من الجوائز ومن أكبر المؤسسات السينمائية في الغرب وفي الشرق ثم حصوله علي أكثر من دكتوراه فخرية من جامعة بوسطن "4 نوفمبر 2008" ومن جامعة ييل الأمريكية "24 مايو 2010" ومن جامعة بانكوك في كوريا الجنونية "31 أكتوبر 2012" هذه التجربة المثقفة والفريدة وهذا التواضع المذهل يقابله دهشة مفرطة عند النظر إلي القاعة الخالية الا من قلة قليلة من العارفين بقيمة وتفرد هذا الرجل. تشابه الحضارات جاء ييمو إلي الندوة في مسرح الهناجر بدار الأوبرا بعد زيارته للمتحف المصري الذي كان حريصا جدا علي زيارته وقد تحدث كثيراً عن بعض اوجه الشبه بين الحضارات القديمة مثل الحضارة الصينية والفرعونية واللافت الذي يزيد اعجابنا الشديد به أنه لا يتحدث غير لغته القومية ولم يخرج خارج الصين الا لتلبية دعوات المهرجانات وآخرها زيارته للمغرب التي كرمه فيها الملك واستقبل بحفاوة بالغة. ومما يزيد من اعجابنا تأثره الكبير بتاريخ الصين وصراعاتها مع اليابان والانسان الصيني الذي تعرض لكثير من الصعاب ودخل في حروب عديدة وظل قوياً. وموضوعاته تدور حول الانسان الصيني والمرأة الصينية في اطوارها المختلفة ولم تبهره الحضارة الغربية ولمن يكن الغرب في أي يوم يمثل له "القبلة" التي يصلي من أجل ان ينل رضاها. وعلي كثرة ما حصده من جوائز فإن له رأياً خاصاً في جوائز الأوسكار صرح به لمراسل جريدة نيويورك تايمز في حديث صحفي اجراه معه في 2004 قال زانج ييمو: ذهبت إلي الأوسكار مرتين وفي أثناء حضوري مراسم توزيع الجوائز. شعرت بأنها لعبة امريكية خالصة. لا علاقة لها بي. انها تحتفي أكثر ما تحتفي بالأسلوب الأمريكي والمعايير الأمريكية ولقد فهمت لماذا يقول المخرجون الأوروبيون عن هوليود انها سم ناقع. ومما أفاقني من غفوتي وأدهشني ان أجلس وسط العالم الثالث. أتفرج علي العالم القديم والعالم ا"لجديد" وهما يتجادلان عن كيف ان الأفلام الأوروبية تخلو من القيم وان الافلام الامريكية تخلو من الثقافة. يقول: يقلقني جداً تأثير هوليود علي الشباب في الصين. واعتقد اننا نحتاج ان نصنع أفلامنا بأنفسنا وان نحمي صناعة السينما لدينا. فهذه أفضل وظيفة يمكننا القيام بها. ومن يعرف هذا المخرج من خلال قائمة افلامه الرائعة من نوعية الذرة الحمراء "1987" وجودو "1990" و"إرفعوا المصباح الأحمر" "1991" و"ثلاثية شنغهاي" "1995" وحتي فيلمه الأخير البديع "زهور الحرب" "2011" يدرك لماذا يعتبر هذا الفنان ايقونة السينما الآسيوية. والابن الشرعي الأصيل لحضارة الصين وتاريخها وحاضرها.. ومن يعرف هذا كله لابد وان يندي جبينه خجلاً حين يري جمهور يعد علي أصابع اليد الواحدة في قاعة واسعة خالية من المثقفين والنقاد وصناع الأفلام في مصر. قاعة جديدة أعدت بأحدث وسائل العصر. وفي دار اسمها "الأوبرا" تعتبر ضمن أرقي الأماكن في القاهرة ثقافيا. ويري أحد أهم المبدعين السينمائيين في العالم وسط قلة تتعرف عليه ربما لاول مرة!! من يري هذا بعينه لابد ان يتساءل مرات عن أسباب هذا القصور والجهل الفادح فلو كان الرجل أمريكيا وبهذه الأهمية هل سيكون الوضع كذلك؟ قالوا قديماً: اطلب العلم ولو في الصين ونحن أمام "الصين" في أفضل تجلياتها الثقافية.. لكن الثقافة في هذه الأيام تعاني من ضمور مروع وما تحمله الأيام القادمة غامض ومريب في ظل هذه الظروف الصعبة التي نعيشها والهجمة الايديولوجية التي سوف تقضي علي الأخضر واليابس. ان الصين التي يعرفها الشعب المصري ويتهافت عليها موجودة ومبعثرة علي الارصفة في الشوارع تحتل بضائعها الرخيصة المساحات الفارغة. ويتهافت عليها الطبقات البسيطة والمتوسطة ويجري اليها اكثر التجار والوسطاء المصريين الذين هان عليهم البضاعة المصرية وانتاج المصانع المحلية. والصين تصلنا إلي عقر دارنا عبر عاملات وعمال صينيين يعرضون بضائعهم. ومن المؤكد ان هؤلاء يتبعون بعض اساطين التجارة المحليين والا فكيف حصلوا علي تأشيرات وتحركوا بهذه الحرية؟ الصين الثقافة والفن والابداع مجرد ضيف غريب عابر لا يعرفه ولا يسعي إلي معرفته "المثقفون". السؤال الأخير: لماذا اكتسحت الصين العالم؟ ولماذا تخشاها أمريكا. وكيف صارت قوة عظمي؟؟ ابحث عن الأسباب وسوف تحصل علي الإجابة.. حول السؤال لماذا تخلينا نحن وكيف وصلنا إلي هذا المستوي الذي وضعنا ضمن آخر القائمة بين دول العالم.