لنعد سريعاً إلى أربعينيات القرن الماضى حيث سطر الروائى البريطانى جورج أورويل رائعته ( مزرعة الحيوان ) ،التى جمعت بين الخنزير والإنسان فى أحداث ليست خيالية تمامًا ، إنما هى الواقع ذاته موضوع فى قالب فنى موجه فى الأساس ضد الظلم والطغيان . هذه الرواية الرمزية الساخرة التى تطلق القذائف فى وجه الأنظمة الاستبدادية ، مزج فيها أورويل بين الخنازير والبشر وبقية الحيوانات فى معزوفة تندد بالقهر وتعرى الإقطاع وتفضح الاستعباد . عاصر أورويل أثناء مشاركته فى الحرب الأهلية الإسبانية انقلاب الثوار الروس على مبادئ الثورة وخيانة الرفاق لرفاقهم حيث أباد ممثلو تيار جوزيف ستالين أنصار رفيقه تروتسكى واكتشف الممارسات الاستبدادية الدموية الغاشمة التى مارسها اليساريون بعد استيلائهم على الحكم . الاتحاد السوفيتى إذن هو المزرعة والرفيق ليون تروتسكى هو الخنزير سنوبول وجوزيف ستالين هو الخنزير نابليون ، وبقية الحيوانات - المضللة إعلاميا والمقهورة اقتصاديا والمستعبدة من الثوار الجدد كما كانت مستعبدة من الحكام القدامى – يرمزون إلى الشعب المبتلى دائما بالطغاة . تثور الحيوانات بقيادة الخنزيرين نابليون وسنوبول على صاحب المزرعة المتسلط مستر جونز ، ويحدد حكيم الثورة الخنزير العجوز أولد ماجور مبادئ التحرك : " معاداة الإنسان المتسلط والعدالة والمساواة لكل من يمشى على أربع أو لديه جناحان " وما إن تنتصر الثورة حتى ينقلب الثوار على مبادئها فيطرد الخنزير نابليون رفيق دربه سنوبول ويستأثر بالسلطة .. استخدم نابليون الخنزير المخادع سكويلر فى السيطرة على القطيع إعلاميا ومن لم يقتنع ويستكين فهناك أنياب الكلاب المدربة ومخالبها .. وعن طريق التضليل والتلاعب الإعلامى يستأثر الثوار بالثروة ؛ فهذا سكويلر يفسر للرفاق عدم توزيع الحليب والتفاح على كل حيوانات المزرعة قائلا : " لا تتخيلوا أيها الرفاق أن الخنازير تفعل هذا بروح من الأنانية والامتياز .. فالحليب والتفاح – وهذا ما أثبته العلم – يحتويان على مادة ضرورية كلياً لصالح الخنازير فنحن الخنازير شغيلة فكر .. إن إدارة هذه المزرعة تعتمد علينا ومن أجلكم أنتم نشرب نحن ذلك الحليب ونأكل ذلك التفاح " وبالطبع فإن سكويلر هنا يرمز إلى الآلة الإعلامية والصحفية الروسية التى كانت تسيطر عليها الحكومة فى نظام ستالين . يستخدم الخنزير نابليون دعايته وإعلامه لخداع الحيوانات وتضليلهم ليظل الخنازير هم فقط المستحقين للترف ومظاهر الرفاهية ، ولكبت وقمع رغبات الاحتجاج والمعارضة لدى بقية الحيوانات ولضمان استمرار عملهم المضنى وخدمتهم الشاقة فى سبيل راحة القلة الحاكمة ، واستخدم الخنزير نابليون نفس الدعاية والإعلام فى الإبقاء على جهل الحيوانات حتى يسهل خداعهم وتضليلهم والسيطرة عليهم ، وفى إقناع شعب المزرعة بأسباب التخلص من الرفيق سنوبول ، تماما كالذى حدث بعدما نفى ستالين خصمه السياسى العنيد تروتسكى إلى المكسيك . وعندما شعرت الخنازير بتذمر حيوانات المزرعة من الوضع الجديد سارعوا بعمل تعديلات فورية على الدستور شملت أهم مادتين من مواده ؛ فبعد أن كان الدستور ينص على أن : جميع الحيوانات متساوية أمام بعضها ، عدلت إلى : كل الحيوانات متساوية غير أن بعض الحيوانات أكثر مساواة ( وهم الخنازير بالطبع ) ، وبعد أن كان الدستور ينص على أنه : ( لا يجوز لحيوان قتل حيوان آخر ) تم تعديله إلى : لا يجوز لحيوان قتل حيوان آخر بدون سبب . هكذا تنصل قادة الثورة لمبادئهم ونكلوا بمعارضيهم ونفوا رفاقهم وأجاعوا شعبهم واستأثروا بالثروة لأنفسهم وقتلوا كل من يعترض على سياساتهم . أروع ما فى هذه الرواية – أو قل هذا المنشور السياسى – أنه مع استشراء القمع والتسلط والإعلام الموجه سادت السطحية والسذاجة وظهرت طبقة جديدة وصنف جديد وسط بين البشر والحيوان ؛ فلا هم ينتمون إلى عالم الحيوانات ولا إلى عالم البشر ، هذه الطبقة التى حلت محل البشر ( مستر جونز ) فى استغلال الحيوان ؛ فقد تحول مناصرو السلطة الجديدة إلى نوع جديد له وجه حيوان ولكن يسير على قائمين لا أربع ، وعندما جاء المزارعون المجاورون لزيارة ( المزرعة النموذجية ) لتهنئة الحيوانات على إنتاجها وجدوا هذه تمشى مثلهم على قدمين وتتحرك مثلهم .. بمعنى آخر : فقد أصبحت السلطة الجديدة أسوأ من سلطة الإنسان ، وصار الخنزير هو الإنسان الجديد فى المزرعة ، أو بتعبير أورويل فى ختام رائعته " وعلت نبرات الغضب من اثنى عشر صوتا تشابهت نبراتها ، وتشاكل أصحابها ، فما عادت الحيوانات تدرك : أين الخنازير ؟ وأين الرجال ؟ ففى الخارج كانت المخلوقات التعسة تنتقل بأبصارها من الخنزير إلى الرجل ومن الرجل إلى الخنزير ومن الخنزير إلى الرجل مرة أخرى وقد اختلط عليها الأمر ، فما عادت تميز بين هؤلاء وهؤلاء . برجاء إعادة قراءة الرواية على ضوء تطورات الأحداث فى مصر ، فلن نجد فارقاً كبيراً بين أبطال وشخصيات ( مزرعة الحيوان ) وبين أبطال وشخصيات ( مزرعة طرة ) ، الذين عزلهم الشعب وحبسهم حفاظاً على جنس الإنسان الراقى .