الطاغية لا يرى إلا نفسه، حتى وإن كان طبيب عيون.. ومن الطبيعي أن يحيط الطاغية نفسه بحاشية فاسدة، لا يهمها مصلحة الوطن ولا حتى مصلحة سيدها وولي نعمتها، فيعزلونه عن المجتمع وعن الناس وعن الدنيا كلها حتى يصاب بالعمى والصمم فلا يميز شيئا مما يدور حوله، فيكرر أخطاء أقرانه من الطغاة، ولا يستفيد من عبرة التاريخ. مع بروز الموجة الأولى من الربيع العربي، لأسباب متشابهة تقريبا في كل شيء، ظن المتابعون للشأن العربي أن كل طاغية سوف يعمل على الاستفادة من تجارب سابقيه، ولن يكرر أخطاءهم.. ولكن ويا للعجب؛ فكل طاغية يسير على الخطى نفسها دون أخذ العظة أو العبرة. تشتعل الثورة، وتبدأ هادئة بمطالب بسيطة، فيركب الطاغية رأسه وتوسوس له الحاشية، ويزين الإعلام الفاسد له سوء عمله؛ فيراه حسنا!.. فيسيطر عليه العناد والمكابرة ويرفض الاستجابة لمن يرى أنهم رعاع.. ويرتفع سقف المطالب بالطبع، فتأخذه العزة بالإثم ويبدأ في الترويع والقتل لإرهاب الشعب، ظنا منه وممن يدفعونه إلى نهايته أن القتل سوف يخيف الشعب الثائر. وقد رأى الطغاة في كل الثورات والانتفاضات أن سفك الدماء يأتي بنتائج عكسية، فالدماء تستدعي الدماء وتُسقط الخوف.. ولذلك، وكما نرى يوميا، فكلما زاد عدد الشهداء تزايد عدد الثائرين وتضاعف ليصل إلى الملايين... والطغاة لا يفهمون!. ولا ندري كم يبلغ مهر الحرية من الشهداء عند كل طاغية؟!. وتعتبر الحالة السورية هي أكثر ما يثير العجب.. فقد كان أمام (الدكتور!) السفاح الوقت الكافي لتحكيم العقل وأخذ العبرة واستباق الثورة الشعبية بإصلاحات حقيقية ملموسة؛ إصلاحات سياسية واجتماعية يستطيع أي مبتدئ في الحكم أن يدركها ويصالح شعبه بها، ولكنه خضع لتضليل الحاشية- التي تسعى لحماية نفسها- وأضاع الفرصة للمرة الثانية. في المرة الأولى، عندما ورث الحكم عن أبيه بسهولة.. كان أمامه ألا يُحمّل نفسه بأوزار نظام أبيه، وأن يتخلص بذكاء من الحاشية الفاسدة مستعينا بالشعب السوري الذي يتوق إلى الحرية، ولكنه دخل طائعا مختارا إلى شرنقة هذا النظام المستبد، حابسا نفسه داخلها، وممهدا الطريق للثورة التي تآمر عليها الجميع. وعندما بدأت نذر الثورة، لم تصل إليه الرسالة إلا متأخرا جدا، فأخذ بأسلوب الترقيع البطيء، غير معتبر بمن سبقوه.. وكان أقصي ما جادت به نفسه المريضة العاجزة هو تغيير الحكومة.. وعندما غير الحكومة لم يغير شيئا سوى تغيير وجوه غير مرغوبة بوجوه غير مرغوبة، وأجلسهم كالتلاميذ- وكلهم أكبر منه عمرا- وأخذ يلقي عليهم "الواجبات المدرسية" وكأنه الوحيد في سوريا الذي يفهم في كل شيء؛ وهم مجرد تلاميذ تحت التمرين!، فجاء التغيير بنتيجة عكسية، وزادت الثورة اشتعالا. لم يفهم النظام السوري العاجز الفاشل أن الدنيا تغيرت، وأن التعتيم الإعلامي لم يعد ممكنا، وأن أسلوب القتل من وراء ستار وإلقاء التهم على الآخرين لن يجدي نفعا، وأن سياسة الأرض المحروقة سوف تحرقه هو في النهاية بعد أن حول أرض الشام إلى أطلال، وأن الخوف قد سقط من قلوب الشعوب العربية إلى غير رجعة.. فورط نفسه ونظامه في مذابح لا داعي لها، ولن تفيده في شيء لأن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء. لو كان لدى سفاح سوريا ذرة من العقل أو الحكمة لفهم منذ البداية أن سوريا لها وضع خاص؛ لأن الحلف الصهيوني الأمريكي الذي يتآمر على العرب أجمعين تهمه سوريا بصفة خاصة لأسباب جيوسياسية، سعيا لتأمين العدو الصهيوني من احتمالات أي تغيير للوضع الراهن، حيث لا سلم ولا حرب. فهذا الحلف (وعملاؤه العرب) الذي كان يدعم الطغيان في اليمن من أجل مصالحه، هو ذاته الذي أسرع إلى التدخل الفوري في ليبيا لأسباب لا تخفى على أحد، وها هي ليبيا تجني ثمار التدخل الأجنبي المغرض. ولا شك أن العدو الصهيوني لا يرغب في وصول الحرية إلى الشعب السوري، خوفا من وجود نظام شورِي متقدم يمكن أن يستجيب للمطالب الشعبية بتحرير الجولان، ويفتح الباب لصراع يقلب كيان العدو، الذي أصابه الرعب من الربيع العربي فأسرع إلى دعم الثورات المضادة. لذا فقد تدخل الشرق والغرب، والعجم (والعرب!) لخلط كل الأوراق في سوريا واستغلال غباء نظامها المريض لتدمير وقتل كل شيء في هذا البلد المبتلَى. والشيء المؤسف أن بعض الأنظمة العربية تعمدت دعم عدة أطراف مختلفة- في الوقت نفسه- لتحارب بعضها بعضا.. وتصبح سوريا وما يحدث لها عبرة للشعوب العربية التي تفكر في الثورة على جلاديها.. بهدف وأد ظاهرة الربيع العربي. والآن فليس من الحكمة البكاء على اللبن المسكوب.. كما أنه ليس هناك جدوى من مناشدة الحكام العرب أو البحث عن (المعتصم) بينهم لأن الأنظمة التابعة العميلة غير المستقلة لا تملك أصلا اتخاذ قرار واحد دون إذن أو موافقة ممن يديرون الشئون العربية عن بعد؛ من واشنطن وتل أبيب وغيرهما. الأمل الوحيد في الله أولا.. ثم في الشعوب العربية التي- إن سكتت ولم تنتفض جميعها في وقت واحد- فسوف يصيبها الدور. لن يحترمنا العالم أو يقف معنا إن لم نقف نحن أولا مع أنفسنا.. ولا تنسوا يا عرب أن الدول العربية التي تعاني الآن من التمزق والتهجير والتدمير والقتل كانت في الماضي القريب تعيش آمنة مثلكم، ثم حدث ما حدث بسبب غيبة الشعوب وبقاء القرار في أيدي من يخضعون للأعداء. أفيقوا يا عرب قبل فوات الأوان.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.