كتبت مرات عن قضية الطالب الإيطالي جوليو ريجيني التي تكبر كل يوم مثل كرة الثلج، وتتحول إلى أكبر أزمة دبلوماسية بين مصر وإيطاليا، ولا ندري التطورات التالية أوروبيا بعد أن استدعت روما سفيرها من القاهرة للتشاور، إذ من المتوقع أن يكون هناك موقف تضامني جديد من الاتحاد الأوروبي ومؤسساته مع إيطاليا العضو فيه، بعد المواقف السابقة من رئاسة الاتحاد والمفوضية والبرلمان. توقفت عن الكتابة بعد أن استنفدت مخزون احتمالات أن تكون الجريمة جنائية تأسيسا على حسن النوايا، وكذلك بعد أن بدأت التطورات تتسارع وتدخل في مناطق شائكة كنت استبعدها اعتمادا على حسن النوايا أيضا بأنه لا بد أن تكون هناك تقديرات موقف ورؤى ومسؤوليات والتزامات قانونية وإنسانية لدى الجهات والأجهزة والشخصيات التي يتم تناولها بالشبهة في القضية من جانب الإعلام والمنظمات الحقوقية والرأي العام في إيطاليا والعالم. القضية تتأزم وتتعقد وتغري على العودة إليها مرة أخرى، ذلك أن إيطاليا خرجت من اجتماعات يومي الخميس والجمعة الماضيين مع الوفد القضائي والأمني المصري بلا نتيجة مقنعة - من وجهة نظرها - بشأن القضية اللغز. السلطات الإيطالية لا تريد قبول ما قالته القاهرة، وقد وصل الأمر لحائط مسدود تقريبا بعد زيارة الوفد المصري لروما، ومن الواضح أن الملف الذي حمله الوفد لم يلق تجاوبا من الإيطاليين، والنيابة هناك لا تريد قبول الطرح بأن تكون عصابة سرقة الأجانب لها دور في القضية، وهى العصابة التي قتلت الشرطة أفرادها الخمسة كلهم، وقالت إنه تم العثور على متعلقات ريجيني لدى شقيقة زعيم العصابة، وتلك الرواية أثارت علامات استغراب في القاهرة وفي روما أيضا، وتم تفنيدها وقتلها بحثا، وكل من تناولها وجد فيها ثغرات، وإذا كانت بيانات وزارة الداخلية لم تقل صراحة إن تلك العصابة هى من قتلته، لكن متحدثي الفضائيات هم من أخذوا يربطون بينها وبين مقتل الطالب ووجود متعلقاته لديها، وهو كان ربط متسرع مثلما أن معالجة القضية منذ تفجرها كانت متسرعة وتسودها العشوائية فأضرت كثيرا، ولم تنفع بالمطلق، وأوصلت إيطاليا للتصور بأن ما حدث لهذا الطالب ليس فعل مجرمين جنائيين، أو عصابات سرقة، أو لصوص عاديين، إنما المسألة أكبر، وإيطاليا رسميا لم تقل ذلك حتى الآن، إنما رواية تعذيبه وقتله صارت هى المعتمدة من الإعلام ومنظمات المجتمع المدني والبرلمان والرأي العام في إيطاليا وبالتبعية في أوروبا وكل متابع في العالم. وأمام ذلك أصبح الموقف المصري ضعيفا ودفاعيا، ومن أسف أنه هو من أضعف نفسه بنفسه بفضل المعالجة البليدة المتناقضة، ولعدم توقع خطورة القضية وتداعياتها منذ اليوم الأول لها، بعد كل ذلك كيف ستزيل القاهرة أية شبهة عن نفسها وتقنع إيطاليا بأن الفاعل مازال مجهولا ويتم البحث عنه؟، والدة ريجيني أطلقت عبارة محزنة، فقد قالت إنه عُذب مثل مصري، وبالتالي هل تعاملت السلطات مع مقتله كما لو كان مصريا؟، أي سيمر الأمر وينتهي دون جلبة، لكن من بيدهم القرار ألم يكونوا يدركون أن ريجيني كفيل من قبره بإسقاط الحكومة الإيطالية كلها، وليس وزيرا واحدا، فروح مواطن هناك تساوي شعبية الحزب الحاكم، وروح طفلة صغيرة تموت بسقوطها في حفرة صرف مفتوحة، أو بماس كهربائي من سلك عار في شارع يطيح بوزير وأكثر، ويجبر رئيس الوزراء على الاعتذار علنا لمواطنيه. إيطاليا غاضبة وهذا ينعكس في سحب السفير، ومصر حائرة لا تدرى ماذا تفعل؟، ولا كيف تغلق القضية؟، ولا كيف تتصرف إزاء تلك الكارثة حتى لو كانت بريئة تماما؟، واقعة ريجيني صارت قضية رأي عام في إيطاليا وأوروبا، ولم يعد قفلها سهلا، لا على مصر، ولا على إيطاليا، والرأي العام هناك لن يهدأ إلا بمعرفة القاتل الحقيقي، والمسارعة بفك لغز القضية سيكون مهما في تهدئة الأزمة. كيف يمكن إغلاق هذا الملف؟، ليس المهم إقناع إيطاليا الرسمية، فلم يعد ممكنا أن تقبل الحكومة رواية لا ترضي أسرة الطالب، ولا الرأي العام الذي صار يشكل عامل ضغط هائل عليها، بل إن الحكومة باتت تتشدد أكثر من مواطنيها حتى لا تبدو في عيونهم كأنها متراخية فتخسر الأصوات في أقرب انتخابات، ويكون مستقبلها مهزوزا فيما تبقى لها من فترة في السلطة. من قتل ريجيني؟. سنجدد الاحتمال بأنها جريمة عادية وجنائية كما ترى القاهرة، حسنا، فأين القاتل؟، هل صار صعبا الوصول إليه رغم ما هو واضح من أن أجهزة عديدة تتولى الملف، وأن عشرات المحققين يتابعونها من النيابة ومن الضباط؟، لو كان إبرة في كومة قش فيجب العثور عليه لأن ذلك صار مصلحة وطنية. وللتخفيف من التداعيات لماذا لا يتم إعطاء الإيطاليين كل ما يتعلق ب ريجيني من تفاصيل اتصالات هاتفية وصور وخلافه، ولماذا لا يلتقي محققون منهم بمن يريدون من مصريين طالما أن هناك ثقة واطمئنان رغم ما في ذلك من بعض الانتقاص من الكرامة الوطنية، ولماذا ذهب الوفد القضائي إلى روما إذن، هل للحل أم لتتأزم وتتعقد الأمور أكثر ويعود دون نتيجة ويبدأ الإيطاليون التصعيد؟. ماذا يجري في مصر؟، تلك القضية تشوه السمعة، وتفقد الثقة، وتجعل العالم يتحدث بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل عن ملف الحريات وحقوق الإنسان. السلطة لابد أن تعيد حساباتها جذريا داخليا وخارجيا، فالذي يحدث ليس له شبيه طوال تاريخ الجمهورية منذ تأسيسها في عهد عبدالناصر، تلك القضية وغيرها تكشف عن أزمة سلطة إذا لم تكن تشعر بها فإننا سنكون جميعا على الحافة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.