لقد وصف الله تعالى حال من حاول انتزاع صفات الله تعالى ليتمثلها فى موقف يفيض كبراً ، وينضح طغياناً ، وتسفيهاً للعقول والأحلام حيث قال سبحانه فى محكم التنزيل :يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر:29) لم أجد فى كتاب الله تعالى آية تظهر ذلك النوع من التأله بهذه الصورة، وتفضح أمر فرعون إلا فى هذه الآية، وكفى بها، فكلام الله تعالى جامع مانع، لقد تخيلت أن التأله هو نوع واحد، وصنف واحد، حتى بدا جلياً أن هناك نوعا آخر من التأله، إنه تأله يملك زمام الناس، ويسيطر على عقولهم، ويحجر على أفكارهم، ويعد عليهم أنفاسهم، إن التأله السياسى هو نوع من الديكتاتورية التى تهمش الفكر، وتغيب العقل، ولا ترى إلا بمنظار واحد، ولا تفكر إلا بمنطق واحد، منطق الأمين على المصالح، وإذا همت طائفة من الناس بمخالفة الهوى،أو فضح المستور، كانت التهم معدة مسبقاً، وجاهزة سلفاً لقد أفصح فرعون عن مكنونه وعن باطن ما يُخفى"إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (لأعراف:123) ولقد كان لهذا الصنف من الفكر والعقل نهاية أتت على من يفكر به، " فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (النمل:51) لقد تهاوت قلاع المتألهين سياسياً، وسقطت عنهم أقنعتهم، وتآكلت سيوفهم، وسقطوا بعد طول عمر، وسوء عمل ، تهاوت روسيا فى زمن قياسى وهى التى كانت تمتلك مايزيد على الستة ملايين جندى، وانتهى زمان شاويشسكو فى رومانيا بعد طول عمر، وقصر نظر،وقضى ميلوسيفيتش، ورحل مبارك عن عالم السياسة والحكم مرغماً بعد ثورة ملهمة وبعزيمة فتية، واحترق صالح اليمن وهو الآن يتسول الحصانة من المحاكمة، وطرد زين تونس، وهكذا يدور الزمان دورته، ولا يبقى فى الأرض إلا ماينفع الناس ويصلح حالهم" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:17) ، إن كل ماينفع الناس، ويعمر الحياة يبقى وإن أكل عليه الدهر وشرب، وإنَّ كل من يحاول أن يجنب شريعة السماء،ويتخذ منهجاً يخدم مصالحه، ويفيد مآربه، لا يدوم طويلا ًوإن طال عليه الأمد،لا يبقى فى الأرض إلا المصلحون، وأعمارهم أطول بكثير من أعمار من يحاولون إجهاض فكرتهم، وطى صفحة حياتهم، وإن أنسى فلست أنسى مقالاً كتبه الراحل خالد محمد خالد حين هلك شاويشسكو، وعنونه بهذه العنوان العجيب ، تعساء أهل البغى...حتى قبورهم عليها هوان الذل بين المقابر ، تعجبت كثيراً من أهل البغى الذين تكبروا فى الأرض، يعيشون الذل والمهانة حتى فى قبورهم، إذا مررت بقبورهم شعرت بأنها ذليلة، لا يأتيها زائر، ولا يدع لأصحابها داع، إذ كفاهم دعوات المظلومين، وصرخات المكلومين من الأمهات، والزوجات، والأبناء، إن لم يتمكنوا من أخذ حقهم فى الدنيا، ففى الآخرة موعد لا يخلف، يقتص الله تعالى فيه للشاة الجلحاء من الشاة القرناء،فإذا علا صوت وانتفش فإنما يعلو إلى أجل،ولهذا لا نعجب إذا انقلب الهرم،وتغير الوضع، وتبدل الحال، واختفى صوت الرجال، وغُيِّبِ الأبطال، وتعطلت الأعمال،وأغُلِقَتْ الأبواب وحيل بين الناس وبين مايملكون وكل ذلك بفعل ذلك النوع من التأله الذى أحسن القائل وصفه : التأله السياسى هو الذى يجعل القاتل الذى يستحق الإعدام زعيماً، ويجعل السارق الذى ينبغى أن تُقطع يده متحكماً فى الأرزاق،ويجعل الذئب المسعور راعياً للغنم، ويجعل الثعلب المنكود مربياً للدجاج،ويجعل الجبان قائد أمة وجنرالها المغوار، ويجعل الجاهل الأبله رائداً للثقافة والتعليم، ويجعل الجعلان والجرذان أرباباً للفكر، ورواداً للمعرفة وحملة للأقلام أ.ه