لعلها لم تكن مصادفة ما حدث معي في الشوارع المحيطة بقاهرتنا العزيزة ليومين متتاليين.. ليست مصادفة وإنما هي رسالة واضحة الدلالة على سِمَةٍ خفيّة ربما تكون قد تمكنت من نفوسنا نحن بعض المصريين، فصارت سلوكًا نمارسه بصورة طبيعية ونسحبه على كثير من تفاصيل حياتنا. الذي حدث بسيطٌ جدًّا في موضوعه.. خطيرٌ جدًّا في مضمونه.. كنت ذاهبًا إلى مكان للمرة الأولى، وسألت أحد إخواننا المصريين؛ من أين الطريق لكذا..؟ فقال: (امش حوالى كذا.. سيقابلك مِطَبٌّ دعه، وبعد المِطَبّ الرابع ادخل جهة اليسار، ثم بعد أوّل مطب يقابلك ادخل كذا..). وفي يوم تالٍ كنتُ متوجِّهًا إلى مكان آخر، وقبل أن أذهب سألت أحد الأصدقاء الخبراء بالطرق، فإذا به يصف لي الطريق معتمدًا على ما به من مطبّات أيضًا مستخدمًا اللغة نفسها: (بعد المطب كذا افعل كذا..). ماذا حدث لنا نحن المصريين لنتعايش مع أوجاعنا ومشاكلنا ونتآلف معها بهذه الصورة؛ فبدلًا من أن نرى المطبّات باعتبارها معيقات لنا ينبغي أن نعمل على إزالتها أو حتى تقليلها؛ إذا بنا لسنا فقط نتقبلها، بل نتخذها علامات نهتدي بها، وكأنّها من المعالم الجغرافية لبلدنا التي نعتز بها ولا نريد تغييرها..؟! ومع مرور الوقت تصبح مطبات الحياة ضرورة للحياة ذاتها، ولو أزيلت لتُهْنا في الطرقات. لعلَّ هذا هو ما حدث بالفعل بعد أن تنَّفست بلدنا هواء الحرية، فإذا بالعديد من أبنائها يقفون مصدومين مشدوهين، وكأنّهم يقولون: (أين المطبَّات..؟) فسارعوا بكل نشاط حريصين على إعادتها في أماكنها في جميع طرقات حياتنا، بل زادوا منها من باب الاحتياط..!! لا يمكن أن تكون المطبات والعراقيل هادية أبدًا. حتى وإن كانت ضرورة لتهدئة بعض المندفعين في حياتهم، الذين قد يصدمون غيرهم، فيضطرهم المطب إلى التهدئة أو التريث قليلا ليعبروه.. وحتى في هذه الحالة لم يكن المطب ضرورة أبدًا وإنما هو استثناء؛ إذ تكفي الإشارة واللافتة والنصيحة بأن أمامك منطقة سكنية، أو مدرسة، أو غير ذلك.. مما يستوجب التهدئة. أما المطب ففعل استثنائي، قد يستبب في الكوارث بدلًا من أن يَحِدّ منها. علينا أن نراه هكذا هو (مطب) ولن يكون أبدًا (نجمًا) نهتدي به.. هو (استثناء) ولن يكون أبدًا (واقعًا) مفروضًا لا بديل عنه.. فالمطب يعوق السير، وقد يحطّم العربة، ولا يساعد أبدًا على الانطلاق إلى الأمام. سنبدأ بداية حقيقية في بناء بلدنا إذا توقفنا عن صناعة المطبّات، بل عملنا على إزالة الموجود منها، واستبدال بها لافتات وقوانين يحترمها الجميع.. عند ذلك تكون الطريق إلى المستقبل واضحة، ومباشرة، لا تحتاج من كل واحد إلا أن ينطلق فيها مدركًا ما له وما عليه، ولا يبحث عن (المطبات) لترشده السبيل، وإنما يرشده عقله ووعيه والتزامه، وما على الطريق من إشارات، ولافتات راقية، منصفة وعادلة، وضعها نواب وخبراء واعون مدركون. وأنا أتأمَّل ذلك الموضوع تداعت إلى ذاكرتي تلك الطرفة المعبرة عن هذا الواقع الأليم، والتي تضيف إلى المشهد بعدًا آخر، يوحي بأن هذا السلوك وتلك الطبيعة متجذرة من الطفولة، بل يتم تنشئة الأطفال عليها في تربيتنا وتعليمنا.. تقول الطرفة: إن أبًا قاسيًا اعتاد على أن يضرب ابنه يوميًّا قبل أن ينام؛ فلا ينام الطفل إلا مضروبًا، وإن لم يكن لذلك الضرب سَبَبٌ اختلق له سببًا.. حتى صارت تلك هي حياته. وفي يوم أراد الطفل أن ينام مبكّرًا قبل موعد نومه، فذهب إلى أبيه وقال له: (لو سمحت يا أبي اضربني علقة اليوم الآن لأنام مبكرًا). فهل حقًّا أصبح الكثيرون منا يبحثون عن المطبات ليعرفوا بها الطريق، ويستعجلون (العلقة) ليناموا مبكرين..؟! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.