لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك.. من أين ياتي الصوت؟ من أين تنبعث النغمة الخاشعة العابدة المُخبتة لله تعالى؟ من أين تسري تلك التلبية في الأرواح والقلوب والنفوس قبل أن تنسكب في الآذان؟ ما الذي يجعل جنبات الكون تردد التلبية فكأنها كلها رجع الصدى لنداء إبراهيم عليه السلام الأول؟ هذا سؤال استفهامي حقيقي وليس سؤالا مجازيا ولا بلاغيا!! لقد منّ الله تعالى عليّ بالحج سنوات طويلة كنت فيها بفضل الله ومنته في قلب الحج.. كنا نسمع التلبية من الحجيج وهم في وسائل مواصلاتهم وفي سيرهم وسعيهم.. نسمعها وهم بعرفة يرفعون أكف الدعاء إلى خالقهم.. لكننا من داخل المشهد كنا نسمع تحت ظلال التلبية والتوحيد حياة بحواراتها وحوائجها وكلام من كلام الدنيا.. نرى ونسمع حجاج بيت الله الحرام ومنهم من انشغل بتلاوة القرآن.. أو انشغل بالدعاء الخاص، أو انخرط في ذكر جماعي أو أخذ جمع من الحجيج يؤمّنون على شيخ يدعو بصوت جهوري.. نرى منهم من هجع للراحة، ومنهم من أخذ يسأل عن فتوى أو حكم من أحكام الفريضة، ومنهم من يسترشد عن طريق ضل عنه.. في قلب الحج أنت في خضم حياة بشرية كاملة.. يصنع تكبيرات العيد على سبيل المثال نخبة حسنة الصوت – أو هكذا يُفترض أن تكون- ترفع مكبرات الصوت وتبدأ في التكبير وتتبعها الجموع، فينساح في الوجدان والآذان نشيد التكبير الملهم.. في ميادين الحرية يجتمع مئات الألوف من البشر لا يُسمع من أصواتهم سوى الصوت الرئيس الذي ينطلق من المنصة العامة الكبرى عبر مكبرات الصوت العملاقة وتنقلها وسائل البث.. مَن منّ الله تعالى عليه بالوقوف بعرفة يعلم أن المشهد هناك مختلف كل الاختلاف.. لا نخبة حسنة الصوت تمسك بيدها مكبرات الصوت.. ولا منصة يُرفع النداء أو الهتاف الخالد من فوقها.. لا شيء من هذا.. ويظل نشيد التوحيد ينساب في الوجود!! ينطلق نداء التلبية والتوحيد كأنه بلا صاحب- بمعنى أنه لا مسؤول عن إطلاقه وتوجيهه والحرص على نغمته تلك التي تتكرر عبر القرون- وإنما نشيد التلبية والتوحيد يصنعه آحاد الناس يصنعه فرد واحد.. تصنعه امرأة تحمل طفلها الرضيع، ورجل يتظلل من حر الشمس، وشيخ عجوز، وضعيف وفقير وغني وعالم وشيخ .. كل فرد في الحجيج على حدة يشارك في صناعة مشهد تردده الآفاق.. والكون كله يردد رجع صداه.. نداء عرفة (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك).. يظل نداء خالدا ومعجزا, وما زلت أحاول تفسير انسياحه في الوجود بتلك القوة والحاكمية والسيطرة.. وما زلت متأملا.. وما زلت لا أعرف تفسير ما وراء النشيد الخالد.. رزقنا الله تعالى حج بيته المحرم والوقوف بعرفة لنكون من بين الذين يصنعون نشيد التلبية والتوحيد الخالد فرادى وزرافات.. اللهم آمين