قضت محكمة الجنايات بسجن صحفيي قناة الجزيرة القطرية ثلاث سنوات ، أي أنها خفضت أربع سنوات من حكم السجن الذي حكم به عليهم في المرة السابقة والذي كان قد قضى بسجنهم سبع سنوات ، ولا نعرف سببا لاختلاف عدد سنوات السجن ، لأن التهم هي نفسها ، والقاضي في إعادة المحاكمة قال أنه تحقق من صحة الاتهامات التي قدمتها النيابة ، وهي نفسها الاتهامات السابقة ، ولكنه قال أنه استخدم الرأفة مع "المتهمين" ولا أعرف سبب استخدامه الرأفة ، فلم يوضح سببا لذلك ، ولماذا توقفت الرأفة عند ثلاث سنوات من سبع سنوات ، لماذا لم تكن عدة أشهر مثلا فيخرجون من السجن باعتبار أنهم قضوا هذه المدة في الحبس الاحتياطي ، كما أن القاضي اعتبر أن مراسلي قناة الجزيرة ليسوا صحفيين ، لأنهم غير مقيدين بنقابة الصحفيين أو تعترف بهم الهيئة العامة للاستعلامات !!، رغم أن اثنين من "المتهمين" يحملون جنسية دول أخرى ، استراليا وكندا ، وكلا الدولتين تتعامل معهما باعتبارهما صحفيين ، كما أن القناة التي يعملون بها تمنحهم بداهة البطاقات المهنية التي تعترف بهم كصحفيين ، وبدون أي استدلالات ، فنحن نحاكمهم لأنهم مراسلون صحفيون يعملون لدى وسيلة إعلامية أجنبية ويشوهون صورة مصر في الإعلام ، فبديهي أنهم ليسوا تجار فاكهة مثلا . الحكم الجديد جدد المواجع على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ، وهيج العالم من جديد عليه وعلى وضع الحريات في مصر بعد أن كانت قد هدأت نسبيا ، والعالم الخارجي ليس معنيا بالخطب المحلية عن القضاء الشامخ والمستقل ، فجميع نظم العالم الثالث بما فيها النظم القمعية والوحشية تستخدم هذه الخطب ، والعالم ومنظماته الحقوقية تتعامل مع الوقائع المجردة ، وتعتبر أن سجن الصحفيين بهذه القسوة هو اعتداء على الحريات العامة وعلى حرية الصحافة بشكل خاص ، وبالتالي لا يفيد أي حديث شجي في الداخل أو عبر المتحدث باسم الخارجية عن القضاء الشامخ والقضاء المستقل ، وكان السيسي قد حاول الخروج من هذا المأزق بإصدار تشريع خاص يسمح له بترحيل المتهم الأجنبي الذي يحاكم أمام القضاء المصري ، حتى قبل أن يحكم عليه القاضي أو تبت في أمره المحكمة وتسليمه لبلاده معززا مكرما ، على ما في ذلك التشريع من إهانة واحتقار للقضاء المصري واستقلاله وسيادته ، لكن الأمر مر مرور الكرام ، وتم بموجب ذلك ترحيل "المتهم" بتر جريست ، صحفي الجزيرة المفترض أنه ضمن هذه المجموعة التي حكم عليها بالسجن ، وكان هو "المتهم" الوحيد ، الذي لن يسجن بموجب هذا الحكم ، لأنه ينعم بالحرية والأمان في بلاده التي يحمل جنسيتها ، بينما الآخرون "المصريون" تم ترحيلهم على الفور من سراي المحكمة إلى السجن . السفير البريطاني في القاهرة انفعل وخرج على مقتضيات اللياقة الديبلوماسية وانتقد الحكم بشكل أقرب للصراحة ، بل وانتقد النظام كله ، واعتبر أن هذا الحكم لا يعطي انطباعا عن الاستقرار في مصر بل يعطي الإحساس بأن الوضع "هش" وهناك إهدار للحريات ، وهو كلام جارح جدا ، ولم يعقب عليه مسئول مصري حتى الآن ، في حدود علمي ، وأما الخارجية الكندية فقالت أن هذا الحكم يهدم الثقة في القضاء المصري وطالبت السلطات بإطلاق سراح "مواطنها" محمد فهمي فورا ، كما أن بيانات الإدانة تتوالى على مدار الساعة منذ لحظة صدور الحكم وحتى كتابة هذه السطور . الواضح أن ثمة اضطرابا واسعا في الرؤية لدى صانعي القرار في مصر ، تجعلك في حيرة من الأمر ، هل هم يعملون على تعزيز حضور مصر في المحافل الدولية وتعزيز مصداقية نظامها الجديد وتحسين صورته باعتباره نظاما يحترم حقوق الإنسان وقيم الدولة الحديثة ، أم أنهم يتعمدون استفزاز العالم كل عدة أسابيع ، ويستجلبون اللعنات والاتهامات للنظام كله بأنه غير ديمقراطي ولا يحترم الحريات العامة ولا حقوق الإنسان ، أحيانا تتصور أن هناك جناحين يعملان في السلطة بدون تنسيق ، وكلاهما يسير في اتجاه مضاد للاتجاه الذي يسير فيه الآخر ، وهو تخبط يشمل السياسات العامة للدولة بكاملها ، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الأمن أو العلاقات الدولية والإقليمية بشكل خاص ، وهذا في تقديري سبب انتشار ظاهرة "الترقيع" بالتشريعات لمحاولة الهروب من أزمات سببتها تشريعات سبقتها .