المشاهد التي نقلت لنا عبر الفضائيات والصحف والمواقع الالكترونية من ألمانيا ، لتظاهرات أنصار السيسي وتظاهرات أنصار مرسي ، وتدخل الشرطة الألمانية للفصل بين الفريقين أحيانا في الأحوال التي يجتمعان فيها في مكان واحد ، أعطت الرسالة التي يخشى نظام السيسي من وصولها للعالم ، مصر منقسمة ، وأن السيسي يمثل عمليا نصف مصر ، كما أن محاولات إظهار الفخر الزائد بالمصرية والروح الوطنية المتشنجة من قبل الممثلين والممثلات والمطربين والإعلاميين الذين رافقوا السيسي تعطي النتيجة الخطأ في المكان الخطأ ، لأن ألمانيا تحديدا من أكثر دول العالم حساسية من الإفراط في هذه المشاعر وتربط بينها تلقائيا وبين الفاشية والنازية التي عانت منهما طويلا في النصف الأول من هذا القرن ، حيث لعب هتلر طويلا على وتر القومية الألمانية والفخر الألماني والتميز الألماني وألمانيا فوق الجميع ، فانتهى بالبلاد والشعب كله إلى الكارثة ، رغم أنه حقق انجازات علمية وعسكرية واقتصادية لا شك فيها ، والألمان يحملون ثقافة تاريخية تنظر إلى هذه المغالاة في الروح القومية أو الوطنية باعتبارها نزعة نحو الفاشية ، وهذا ربما ما بدا في بعض تعليقات الصحف الألمانية التي اهتمت بمتابعة رحلة السيسي . الصحافة الألمانية لم تكن تتابع زيارة السيسي في حد ذاتها ، كمسؤول أو سياسي مصري رفيع يقابل المستشارة الألمانية لمباحثات اقتصادية ، فهذا حدث غير مغري هناك بأي مقياس ، ولكن الاهتمام كان في الصخب والعراك والشحن والتوتر وصراعات الحشود بين أنصاره ومعارضيه على الأرض الألمانية ، فهو مشهد مثير ، وجيد للجاذبية الإعلامية ، ومن هذه الزاوية فقد خدم الحدث معارضي السيسي أكثر ، والإعلام الألماني لا يحتاج إلى جرعة ذكاء زائدة لكي يدرك أن احتياج الرئاسة المصرية إلى حشد بعض "المشجعين" من القاهرة لكي يساعدوا في احتفالية له ببعض شوارع برلين يعني قلقه وضعف شعبيته بالخارج وقلة ثقته بقبوله في أوساط المصريين بالخارج وأن المعارضة قادرة على إحراجه وإهانة رمزيته أمام العالم الخارجي ، كما أن تلك الصحافة لا تحتاج إلى شروح لكي تبدي دهشتها وقد أبدتها من أن النظام المصري الذي يجرم التظاهر في بلاده ويسجن من يتظاهر سلميا ثلاث سنوات يحشد هو نفسه المتظاهرين خارج البلاد وينظم شعاراتهم ويوزع عليهم الأعلام والهتافات !. الحكومة الألمانية وقعت تحت ضغط عنيف في تلك الزيارة ، والإعلام الألماني نشر عناوين جارحة جدا ، تتهم ألمانيا ببيع مبادئها وهي تستقبل "ديكتاتور" من أجل مصالحها ، وتصف السيسي بالضيف الثقيل ، وهناك عشرات المؤسسات الحقوقية الدولية الكبرى وجهت خطابات مشتركة إلى المستشارة الألمانية تطالبها بالضغط على السيسي لوقف الانتهاكات ضد "الإنسانية" في بلاده ، وبدون شك سيكون لتلك الضغوط آثارها على مقابلات الرئيس المصري في ألمانيا ، وإن كان هناك شك في أن يكون لها أي صدى في اختياراته السياسية بعد عودته ، لأن القرار في القاهرة الآن أصبح معقدا ومرتبطا بحسابات أكثر من جهاز وأكثر من مؤسسة ، بما فيها مؤسسة الرئاسة ، ولكن المؤكد أن ما حدث ويحدث في تلك الزيارة وردود الأفعال وتوابعها ، سيجبر كثيرين في القاهرة على مراجعة المسار وإعادة النظر في مستقبل البلاد ، لأن القبول الاضطراري أو "الواقعي" بالنظام المصري دوليا يصاحبه حصار أخلاقي ومعنوي خطير يولد التوتر بصفة دائمة ويضع صانع القرار تحت ضغط دولي متتالي ويحاصر اختياراته السياسية والأمنية والاقتصادية ويضعف قدرته على الحركة ويحجم خططه للإنقاذ . ألمانيا ، مثل بقية أوربا ، تبحث عن مصالحها الاقتصادية في مصر أولا ، وثانيا حريصة على الاستقرار في مصر في ظل رعب عالمي من تمدد المنظمات الإرهابية ، وانتشار داعش وخلاياها في بلدان الشرق الأوسط بسبب انهيار أكثر من نظام سياسي ، والسيسي يراهن على تسويق نفسه في هذه النقطة تحديدا للقبول به كحالة اضطرار ، غير أن أوربا والولايات المتحدة تعبران بصفة دائمة عن القلق من أن السياسات الأمنية والاجتماعية العنيفة والقمعية التي تمارس الآن في القاهرة تعرض هذا الاستقرار للخطر ، ومن هنا تضغط بصفة مستمرة ليس من أجل إنهاء حكم السيسي ولا حتى من أجل الديمقراطية ذاتها وإنما لتصحيح مساره لاستيعاب معارضيه ، ووقف الانقسام المجتمعي والسياسي الحاد والخطير في البلاد ، الذي يساعد على انتشار أفكار العنف والتطرف ويفتح الباب واسعا أمام ميلاد تنظيمات إرهابية ، وهذا ما فشل السيسي حتى الآن في إثبات قدرته على تجاوزه أو علاجه أو التعامل معه بجدية ملائمة وإحساس بالمسؤولية أمام العالم .