لست أدري لماذا لا أتمالك نفسي في يوم عيد الفطر، أو الأضحى – ومثلي كثير من أهل الفكر - عن تذكر بكائية المتنبي الله يرحمه، التي ندب فيها حاله، وهتف فيها: عيد بأية حال عدت يا عيدُ ... بما مضي؛ أم لأمرٍ فيك تجديد وهي البكائية التي طالما عارضها المعارضون، واستشهد بها المستشهدون، واقتبسها المقتبسون. وكتبها أخونا المتنبي بمناسبة (تطنيش) حاكم مصر الحازم كافور الإخشيدي رحمه الله، الذي وضع نفسه والعدل فوق كلام الشعراء ومبالغاتهم، وقصائدهم المنافقة، وأساليبهم التسلقية، التي يلهفون بها من الفلوس (شيء وشويات). وركب الحاكم النظيف رأسه، ولم يهتم بوعيد المتنبي إياه، غير مدرك أن الإعلام يمكن أن يشوه صورة أي إنسان، ويمسح به الأرض (والشعراء زمان كانوا فضائيات الآن) فكان أن فتح أخونا أحمد بن الحسين عليه طوفانًا من البذاءة، والكلام الوسخ (اللي يسم البدن)، هو والمصريين أجمعين، فلم يدع لهم حسنة، ونفي عنهم وعن كافور الإخشيدي كل فضيلة، حتى انطبعت لكافور صورة تاريخية شديدة القبح، كما انطبع نوع من التعاطف الواسع للشاعر أبو لسانين (مش أبو الطيب) وكان من جملة ما قال في القصيدة الرائعة في فحش سبها، وصورها (العربجية): إني نزلت بكذابين.. ضيفُهمُ ........عن القِري وعن الترحال محدودُ جودُ الرجال من الأيدي وَجودُهمُ ........من اللسان فلا كانوا ولا الجود ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهم ........إلا وفي يده - من نتْنها - عودُ تخيل هذه الصورة البشعة: ملك الموت يصعب عليه أن يقبض نفسًا من هذه النفوس بيده، بل يستخرجها – لنتنها - بعصًا، أو نحوها! منتهى الإقذاع! ويتحدث عن الانقلابات والخيانات السياسية فيقول: أكلما اغتال عبدُ السوء سيدَهُ ........أو خانه.. فله في مصرَ تمهيدُ؟ صار الخَصِيُّ إمامَ الآبقين بها ........فالحر مستعبد.. والعبدُ معبود نامت نواطيرُ مصر عن ثعالبها ........فقد بَشِمْنَ.. وما تفني العناقيدُ لا تشتر العبد إلا والعصا معه ........إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن ........يسيء بي فيه عبدٌ وهو محمود جوعانُ يأكل من زادي ويمسكني ........لكي يقال عظيمُ القدر مقصود وكان أن أعجب الأدباء والشعراء بالقصيدة، واعتبروها من عيون الهجاء. لكن المبدعين الذين عارضوا القصيدة وجروا على نهجها، استفادوا من المطلع فقط، ليبكوا من خلاله على حال الأمة التعيسة، التي ترفل في قيودها، وتنعم بأسباب هوانها، فكلما جاء عيد بدأ الكتاب يفتتحون مقالاتهم بمطلع القصيدة.. لكن منهم من جري معها شوطًا يشكو فيه الهوان وسوء الحال، فها هو شاعر النفس المؤمنة، الرجل الأميري في كل شيء - هيئة وهيبة وجسمًا وهمة وشعرًا - الأستاذ الكبير عمر بهاء الدين الأميري، يهتف منزعجًا من قدوم العيد، على أمة مستباحة ترفل في الهوان: ما العيد والقدس في الأغلال قد رسفت ........وفي الخليل ملمّات وتشريدُ وزأرة المسجدِ الأقصى مضرجةُ ال ........أصداء بالدّم والويلات ترديد واللاجئون صيامُ العيدِ فطرُهمُ ........وبِشْرُ أطفالِهم همٌّ وتسهيدُ ويتم الأميري وجعه في قصيدة أخرى فيقول: يقولون لي: عيدٌ سعيدٌ، وإنه ........لَيومُ حساب لو نُحسّ ونَشْعرُ أعيد سعيد! يالها من سعادةٍ ........وأوطاننا فيها الشقاءُ يزمجرُ ويبحث الشاعر العراقي الجميل مصطفي جمال الدين عن ذكرياته في العيد فيهتف: يا عيدُ عرِّجْ فقد طالَ الظّما وجَفَتْ تِلكَ السنونُ التي كم أيْنَعَتْ عِنَبا يا عيدُ عُدنْا أعِدْنا للذي فرِحَتْ به الصغيراتُ من أحلامنا .. فخَبا مَنْ غيّبَ الضِّحْكةَ البيضاءَ من غَدِنا ففَرَّ بالفرحِ السهرانِ مَنْ هَربَا لم يبقَ من عيدنا إلا الذي تَرَكَتْ لنا يداهُ، وما أعطي، وما وَهَبا من ذكرياتٍ أقَمنا العُمرَ نَعصرُها فما شربنا .. ولا داعي المُني شَرِبا يا عيدُ هَلاّ تَذَكرتَ الذي أخَذَتْ منّا الليالي وما من كأسِنا انسَكَبا! وهل تَذَكَّرتَ أطفالاً مباهِجُهُم يا عيدُ في صُبْحِكَ الآتي إذا اقتربا هَلاّ تَذَكَّرتَ ليلَ الأَمسِ تملؤُهُ بِشْرًا إذا جِئْتَ أينَ البِشْرُ قد ذَهَبا وأما الشاعر الوجيع أمل دنقل، فيصرخ بعد النكسة، صارخًا في وجوه من نكسونا، وأذلونا، وجلبوا لنا العار: عيد: بأية حال عدت يا عيد!؟ ........بما مضى أم لأرضي فيك تهويدُ؟ نامت نواطيرُ مصر عن عساكرها ........وحاربت بدلًا منها الأناشيدُ ناديت: يا نيل هل تجري المياهُ دمًا ........لكي تفيض، ويصحو الأهلُ إن نودوا وعن هموم وآلام المعتقلين وأسرهم، والإحساس الدائم بالظلم، وخيانة حراس الوطن لأبناء الوطن، يقول الشاعر محمد وهبة: عيد: بأية حال عدت يا عيد ........ بفرحة أم بحبس فيه تمديد أما الأحبة فالقضبان دونهم ........ ما أتعس القوم حين يسوس عربيد ما ذنب اطفال حرمت عيونهمُ ........ من فرحة غالها ظلم وتشريد بالله أسال أهل الحق عن سبب ........ لما يدور بنا والقول محدود إني أسائل جدران السجون ........ وما تحويه من قصص والأمر تفنيد كل الزنازين تشهد يوم يجمعنا ........الجمع حق.. وهذا اليوم مشهود ماذا جنيت وما ذنبي وما تهمي ........ حتى يلاحقني سجن وتهديد ويصرخ الشاعر الكبير عمر أبو ريشة بشيء من التفاؤل: يا عيد: ما افتر ثغر المجد يا عيدُ ........فكيف تلقاك بالبشر الزغاريدُ؟! يا عيد: كم في روابي القدس من كبدٍ ........لها على الرفرف العلوي تعييدُ سينجلي ليلُنا عن فجر معتركٍ ........ونحن في فمه المشبوب تغريدُ أما الشاعر الفلسطيني الدكتور محمد محمود صيام فيهتف - متفائلًا أيضًا - في قصيدته: من وحي عيد الأضحي المبارك، معلنًا أن الخلاص للأمة في الرجوع لربها سبحانه: عيد: بأيّة حالٍ عدت يا عيدُ! ........وشعبُنا حالُه همٌّ.. وتشريدُ يظل بعد فلسطين وروعتِها ........تضم أشلاءه الأغوارُ والبيدُ فالنصر في الدين يحدو ركبنا قدمًا ........مهما علا لصياح البوم ترديدُ وقال شاعر فلسطيني بيساني لا أعرف اسمه: عيد: بأية حال عدت يا عيدُ ؟! ........أنا ابنُ بيسانَ من بيسانَ مطرودُ ما لي أراني عصي الدمع أنضبه ........أجفّ دمعي أم في القلب موؤودُ إني لأبكي علي بيسان مذ رحلت ........عنها الجدودُ الأماجيد الصناديدُ ودنستْها يهودُ الأرض قاطبةً ........وروّعتها الزناديقُ المناكيدُ ما زلتُ بالهمِّ والأحزان منطرحًا ........لأنني بحبال العُرْبِ مشدودُ وقد خمسها الشاعر الكويتي فهد العسكر تخميسًا لطيفًا فقال: يا عيد عدت فأين الروض والعود ...... والهف نفسي وأين الراح والغيد بل أين أحباب قلبي والمواعيد ...... عيد بأيّة حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد قلبي أسيرٌ وربّ البيت عندهمُ ...... قد حيل واحسرتا بيني وبينهمُ أين المؤاسون فاض الكاس أين همُ ...... أمّا الأحبّة فالبيداء دونهُم فليت دونك بيدًا دونها بيد أوّاه ضاعف أحزاني شرابكما ...... شتّان شتّان ما بيني وبينكما فخبّراني بحقّ اللَه ربّكما ...... يا ساقييّ أخمرٌ في كؤؤسكما أم في كؤوسكما همّ وتسهيد يا للتّعاسة لا الأوتار تطربني ...... بشدوها لا ولا الأنغام تؤنسني فيا ندامى أمنكم من يخبّرني ...... أصخرةٌ أنا؟! مالي لا تحرّكني هذي المدام ولا تلك الأغاريد بالأمس كانت قطوف الوصل دانيةً ...... واليوم أضحت لتعس الحظّ قاصيةً وضاع عمري وما حقّقت أمنيةً ...... إذا أردت كُميت الخمر صافيةً وجدتها وحبيب النفس مفقود يومي كأمسي وأمسي أسود وغدي ...... يا دهر خفّف كفى ما ذقتُ لا تزد ويا رفاقي اعذروني إن نفضت يدي ...... لم يترك الدهر من قلبي ومن كبدي شيئا تتيّمه عين ولا جيد فكم شكوت ولكن لم أجد أحدًا ...... يصغي فأبكي وهل تروي الدموع صدى وعشت لا أرتجي مالاً ولا ولدا ...... وكنت أروحَ مثرٍ خازنًا ويدا أنا الغنيّ وأموالي المواعيد وعشت بين أناس لا وعودهُمُ ...... تشفي غليلاً.. ولا تغني عهودهم عُميٌ وأطماعهم أمسَت تقودهم ...... جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود وتبقي قصيدة المتنبي الهجائية الكافورية غرة من غرر قصائد الهجاء والاستجداء.. لكن من أهم قصائد العيد التي شكلت وجدان شباب السبعينيات، قصيدة كتبها الشيخ الرائع إبراهيم عزت رحمه الله تعالى - عام 1966 - وأنشدها بصوته الشجي، المنشد العظيم رضوان عنان الشهير بأبي مازن، بأداء قوي، ونبرة مؤثرة، يتحدث فيها الشيخ إبراهيم عزت - الذي لا يعرفه الناس شاعرًا - عن معاناة أهالي السجناء في العيد، الذي يفترض أن يكون رمز الأمان، واجتماع الشمل، وأن تملأه الفرحة المشرقة، لا التياع الزوجات، وحسرة الأمهات، وانكسار الأبناء ، وهي بعنوان: اليوم عيد، يقول رحمه الله فيها: اليومَ عيدْ/ قد عشت فيه ألفَ قصةٍ/ حبيبةِ السمات أرددُ الأذانَ في البكور/ أراقبُ الصغارَ يمرحون في الطريق كالزهور وهذه تحيةُ الصباحْ/ وهذه ابتسامةُ الصديقِ للصديق/ والسلامُ يبسطُ اليدينِ يرسلُ الندي/ ويملأ الحياةَ بالأمان وخضرةُ الزروع غضةَ الجني/ تجمعت أمامَ مسجدِ الإمام وأطيبُ الثمارِ تطلبُ الكبار/ هديةٌ يحبُّها الصغار: تحبها صغيرتي ما أطيبَ الزمان يا أحبتي/ إن عانق الأمانْ/ زمانُنا ربيعُه الأمان الكلُّ عائدٌ بفرحة تطل مشرقة/ من الشفاه والعيون/ ودارُنا ستنتظر/ صغيرتي ستنتظر/ والشرفةُ التي علي الطريقِ تسمع الصدور/ تعزف الأشواقَ تعصر الأسي هشام لن ينام/ قد كان نومُه علي ذراعِ والده نهادُ لن تذوق زادَها/ لأنها تعودت/ أن تبدأ الطعام من يد الأسير شريكةُ الأسي بدا جناحُها الكسير/ تخبّئ الدموعَ عن صغارها/ وحينما يلفها السكون سترتدي الصقيعَ كي تقدم الحياة للرضيع ما زال يومنا ويومهم لأننا نحبهم.. اليوم عيد [email protected]