فى الحلقة السابقة أشرت إلى قصص يحيى حقى ونماذج للغائبين عن الوعى دون التعرض للخمور أو المخدرات، فالبطل فى قصته الشهيرة "البوسنة" يختار بإرادته أن يغيب عن وعيه وواقعه بمعايشة عالم الرسائل، التى بين يديه، وفى رواية قنديل أم هاشم يغيب أبناء الحى عن الوعى بتصديق خرافة الزيت المبروك الذى يشفى العيون، ويضطر الدكتور إسماعيل بطل الرواية إلى مجاراة أهله فى هوسهم بالزيت المبروك حتى يكسب ثقتهم ويعالجهم بالعلم. حشيش "نجيب محفوظ" أما عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، فالمخدرات بأنواعها وأشكالها وخاصة الحشيش تلعب أدوارا مهمة فى قصصه لدرجة أنه بنى رواية مثل: "ثرثرة فوق النيل" على تعاطى الحشيش، حيث يلتقى مجموعة من الرجال والنساء فى عوامة على النيل يختلفون فى كل شيء تقريبًا ولا يوحدهم إلا هواية تدخين الجوزة ومن خلال هؤلاء الحشاشين يدلى نجيب محفوظ بآراء أكثر حدة وجرأة ويصف حال المثقفين وعلاقتهم بالوجود وبالسلطة ويكون ذلك بالطبع على لسان أبطال روايته المساطيل فهم فى حالة من الضياع وغياب الدور وعندما قتلوا الفلاحة دون قصد وهى تعبر الطريق أمام سيارتهم، لم يحسنوا التصرف وحتى بعد أن أفاقوا من الحشيش اختلفوا فى الرأى وتشاحنوا وانتهت الرواية دون فعل حقيقي.
دخان إحسان ونجد إحسان عبد القدوس فى روايته "حتى لا يطير الدخان" يقدم نموذجا لشخصية تاجر المخدرات وقد أبدع إحسان فى تصوير هذه الشخصية التى تعد صورة مجسدة لتاجر المخدرات والقواد، وعلى الرغم من أن الرواية تحمل أبعادا فكرية وتقدم عالما يعيش أبطاله أحلام اليقظة ويتخيلون بطولات وهمية، إلا أن الوحيد الذى يحقق كل أحلامه فيهم هو تاجر المخدرات الذى يتاجر فى الأعراض ويبيع الوهم.
يوسف إدريس كان أقل الأدباء تناولا لموضوع المخدرات، رغم أنه درس الطب وكان أقدر من غيره على وصف حالة المدمن نفسيا وجسديا بحكم دراسته ومشاهداته وربما تكون نظرة الاعتياد والتكرار أطفأت حماسة الرغبة فى الكتابة عند يوسف إدريس ولم يصمت بيرم التونسى كما هى عادته عن أحد العيوب الاجتماعية المنتشرة بين الناس، فيتحدث بيرم فى المقامة المنزولجية، حيث يقول بيرم على لسان "الحارس بن خرمان": عزمت على الانبساط واللهو والزياط فقد كان اليوم عطلة تغيب فيه السلطة فاشتريت "بلبوعة" بالبهارات مصنوعة وشربت فوقها حسب العادة فنجان قهوة سادة وذلك لكى تسيح ويحصل التفريح ويستمر بيرم فى وصف حال الحارث بن خرمان الذى تخيل نفسه فى قصر كبير وقد فتحوا له الثلاجات وظل يأكل منها ما لذ وطاب وبعد أن ينتهى مفعول "البلبوعة" المخدرة يفيق فإذا هو جالس على القهوة وقد اعتدى على طعام جاره الذى كان سببا فى إفاقته ضربا.
وفى رأى الدكتور فؤاد ذكريا أن الأدباء الكبار ليسوا جميعا من نمط واحد هو ذلك الذى يكون فيه نتاج الفكر متوحدا مع سلوك الإنسان، فقد عرفت البشرية كتابا يضحون بحياتهم من أجل القضايا الإنسانية وعرفت كتابا يسير إنتاجهم الإبداعى فى اتجاه يخالف سلوكهم العلمي.
... وبعد ما زال السؤال مطروحا، فلم يعترف أحد ممن اتهموا بأنه تناول المخدرات ليبدع فنا أو أدبا يمتع الناس بأنه تناول هذه الموبقات رغم أن ناقدا لبنانيا كبيرا هو "جهاد فاضل" اتهم يوسف إدريس بأنه لم يكن يفيق من الخمر التى كان يتعاطاها!