كلما وقعت مواجهة مسلحة في منطقتنا العربية والإسلامية كان الغرب طرفًا فيها، كما هو الحال في الحرب على أفغانستان والعراق، وتدخل حلف شمال الأطلنطي في ليبيا وغيرها، كلما عاد مصطلح الحرب الصليبية إلى الظهور، لا على ألسنة الناس والمعلقين، وكتاباتهم فحسب، ولكن على ألسنة مسئولين كبار. ففي مارس الماضي، انتقد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين قرار الأممالمتحدة الخاص بفرض الحظر الجوي على ليبيا، وشبهه ب"الحملات الصليبية" خلال القرون الوسطى، قائلا: "بالنسبة لي فإنه (القرار) يشبه دعوة من العصور الوسطى للقيام بحملة صليبية يطلب فيها شخص من شخص آخر الذهاب إلى منطقة معينة وتحرير شخص ما". وفي الشهر نفسه، اعتبر وزير الداخلية الفرنسي كلود جيان التدخل الدولي في ليبيا "حربًا صليبية"، لكن كلامه جاء في معرض الإشادة بتحرك الرئيس الفرنسي ساركوزي، بينما كان "العالم أجمع يستعد للتفرج على شاشات التلفزيون على ما يرتكبه العقيد القذافي من مذابح"... "لحسن الحظ قاد الرئيس الحرب الصليبية لتعبئة مجلس الأمن الدولي ثم الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي". أما المندوب السياسي الروسي لدى حلف شمال الأطلنطي "الناتو" ديمتري روجوزين، فقد وصف عمليات الحلف على ليبيا بأنها "حملة صليبية" من أجل النفط، معتبرًا أن ليبيا كانت أولى محطات هذه الحملة"، " فالغرب لم يتمكن من إيجاد رد اقتصادي على الأزمة المالية ويحاول الآن توفير الهيدروكربونات الرخيصة لاقتصاده". واعتبر - في حديث لصحيفة "يورو ابسيرفر" الإلكترونية- أن عملية الناتو في ليبيا تعني نهاية توسع الحلف نحو الشرق وبدء حملته الصليبية بغية كسب النفط في الشرق الأوسط، وأن "ليبيا هي أول بلد أصبح عرضة للحملة الصليبية الجديدة". وبعد هجمات سبتمبر 2011 في نيويوركوواشنطن، استخدم الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش(الابن) مصطلح الحرب الصليبية في 16 سبتمبر 2001 للإشارة إلى ما أسماه الحرب على الإرهاب فقال "This crusade, this war on terrorism is going to take a while." "هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب يلزمها وقت". وضمن نداءاته الجوفاء استخدم القذافي المصطلح ذاته لوصف عمليات حلف الناتو في ليبيا متهمًا الرئيس الفرنسي بشن "حرب صليبية جديدة" في إفريقيا قائلا "إفريقيا كلها وراءنا ومعنا وتدافع عن الأمة الإسلامية وتدافع عن الإسلام أمام حملة صليبية أعلنها رئيس فرنسا بنفسه". معنى الحروب الصليبية يطلق اسم الحملات الصليبية أو الحروب الصليبية أو حروب الفرنجة على مجموعة الحملات الحربية التي قام بها الأوروبيون على الشرق الإسلامي بداية من عام 1096 واستمرت قرابة قرنين من الزمان، أريقت فيها دماء مئات الألوف من المسلمين، وفي واقعة واحدة قتل الصليبيون حين دخلوا القدس سبعين ألفًا في ساحة المسجد الأقصى. ورغم أن الحملات الصليبية كانت لها أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، إلا أن الأوروبيين رفعوا شعارًا آخر لا علاقة له بتلك الأسباب، فقد تواروا تحت رداء المسيحية وشعار الصليب. كانت الحروب الصليبية حروبًا استعمارية، متوحشة، مارس فيها الصليبيون مجازر دموية. وهي حروب استئصالية قتل فيها الأطفال والنساء والشيوخ، وأهلك الحرث والنسل. حروب استغلالية؛ سعى مطلقوها إلى التلاعب بإيمان البسطاء للسيطرة على الشرق. لكن الحديث عن تاريخ الحروب الصليبية شيئ، والحديث عن مصطلح "الحروب الصليبية" شيئ آخر، خاصة إذا خرج عن إطاره الديني، وأصبحت لكلمة crusade معان أخرى، منها حسبما وردت في بعض القواميس الإنجليزية: * A series of actions advancing a principle or tending toward a particular end *Any enterprise undertaken with zeal and enthusiasm; as, a crusade against intemperance *A grand concerted effort toward some purportedly worthy cause فالمصطلح يعني حملة أو مجموعة من الإجراءات أو الجهود التي تتخذ بجدية وحماس لتحقيق هدف يستحق العمل من أجله. ومن معانيه في القواميس العربية: حملة عنيفة ضد مبدأ .. الخ أو في سبيله، وكفاح، نضال، حرب في سبيل مبدأ وتستخدم الكلمة للإشارة إلى الحملات القومية مثل حملة التطعيم أو الحملة ضد إدمان المسكرات وهناك The Ten Year Crusade وهي حملة عشرية ( 1953-1963) أطلقها "شوقي أفندي" للتوسع في نشر البهائية في العالم، ولا يمكن اعتبارها حملة صليبية، وإن كانت حملة ضد الإسلام. وهناك حزب سياسي في الأرجنتين اسمه الحملة الصليبية للتجديد The Renewal Crusade الحملات الصليبية في نظر الأوروبيين من جانب آخر فإن كثيرين في الغرب- وربما كانت تلك هي الثقافة السائدة هناك- لا ينظرون إلى الحروب الصليبية نفس النظرة السائدة عندنا، وإنما ينظر إليها نظرة إيجابية، باعتبارها حملات من أجل الخير، سعت لتحقيق هدف سام، وهو تخليص أرض المقدس من المسلمين (الوثنيين) حسب زعمهم. وقد سمي الغزاة أسماء تستدعي التقدير من جانب العامة مثل مؤمني القديس بطرس أو جنود المسيح، واعتبر بعضهم أنفسهم حجاجًا، واستخدم اسم "الحجاج المسلحين" للتمييز بينهم وبين الحجاج الذين لا يحملون سلاحًا في العادة. كما يُنظر إلى قادة الحملات الصليبية على أنهم أبطال وقديسون؛ مثل الملك الفرنسي لويس التاسع الذي قامت الكنسية ب"تطويبه"، وأدرجته في قائمة القديسين. أما الملك البريطاني ريتشارد الأول فقد أصبح لقبه ريتشارد قلب الأسد، ويعتبره الإنجليز بطلا قوميًا، وأُلفت حول شخصيته الملاحم والقصص الأسطورية، رغم أنه ارتكب مجازر دموية كمجزرة عكا، حيث قتل نحو 3 آلاف مسلم بالمدينة، طعنًا وضربًا بالسيف في 27 رجب 587 ه 20 أغسطس 1191م. على أي محمل نأخذ التصريحات؟ إذاً، حين يتكلم سياسي غربي ويستخدم لفظ الحرب الصليبية.. فعلى أي محمل نأخذ كلامه؟ هل هو يقصد المعنى الديني، رغم أن الغالبية الساحقة من السياسيين علمانيون، وربما لا دينيين. أم نحمل كلامه على المعنى القريب، المعروف لنا تاريخيًا، والذي يستثير الشعور الديني، وبذكرنا بوحشية الغرب في تعامله معنا؟. أم نتعامل معه على أنه نوع من التحريض، من طرف لا يقل في عداوته لنا عن الطرف المُحَرض ضده؟ نستطيع أن نقول إن كل ما سبق وارد. بوش يبحث عن يأجوج ومأجوج! فحين تكلم جورج دبليو بوش عن حرب صليبية، فليس من المستبعد أن يكون قد قصد الحرب بمعناها التاريخي، فقد عرف بعقيدته المسيحية الصهيونية، وادعى أنه كان يتلقى رسائل من الرب، ويحكي الكاتب الفرنسي جان كلود موريس في كتابه: "لو كررت ذلك على مسمعي فلن أصدقه" أن بوش كان يتصل بالرئيس الفرنسي جاك شيراك بمعدل مرتين في اليوم، ليحثه على ضرورة المشاركة في الحرب، وأنه كان يبحث عن أمر لا علاقة له بالأسلحة. يقول شيراك للكاتب:" تلقيت من بوش مكالمة هاتفية غريبة في مطلع عام 2003، فوجئت بالرئيس الأمريكي وهو يطلب مني الموافقة على ضم الجيش الفرنسي للقوات المتحالفة ضد العراق، مبررا ذلك بتدمير آخر أوكار "يأجوج ومأجوج" وأضاف شيراك في حديثه للكاتب أن الرئيس الأمريكي "أكد" له أن "يأجوج ومأجوج" مختبئان في الشرق الأوسط، قرب مدينة بابل العراقية القديمة، وقال بوش:" إنها حملة إيمانية مباركة يجب القيام بها، وواجب إلهي مقدس أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل". ويقول الكاتب الفرنسي:" إن بوش، لم يُخْفِ يوماً أنه مؤمن جدا وأن الرب يوجهه نحو الأهداف التي يسعى إليها... من يعرف جورج بوش من خلال الذين سايروه منذ طفولته، يمكنه التأكد من حقيقة كبيرة وهي أنه كان شخصا مؤمنا فعلا بالمذهب الصهيوني، بكل أبعاده الدينية والفكرية والإيديولوجية والسياسية، مثلما كان يؤمن دائما بالخرافات الدينية التي تحكي عنها الكتب اليهودية، بل وكان يجد فيها راحة روحية بالنسبة إليه.. لهذا لم يكن غريبًا أن يتلفظ بوش بعبارات دينية قبل البدء في الكلام، مثلما كان يتلفظ بعبارات من التوراة تحديدا للحديث عن أحلامه، فقد كان يهوديًا في تفكيره إلى أبعد حد. وبعد تفوه بوش بهذه الكلمات سارع مستشاروه السياسيون لتدارك أثر تلك التصريحات، والقول بأن بوش لم يقصد الحرب الصليبية، فقد كانوا يعرفون المردود السلبي لكلماته بين المسلمين الذين كانت واشنطن ترغب في كسبهم إلى صفها في الحرب على ما يسمى بالإرهاب، أو على الأقل تحييدهم. أما حين يستخدم وزير الداخلية الفرنسي المصطلح في معرض الإشادة بتحرك الرئيس الفرنسي ساركوزي، ففي رأيي أنه يستخدمه على المعنى العام، أي أنها حملة منظمة لها أهداف (ولا يعني ذلك تبرئة الفرنسيين من وجود أهداف استعمارية للتدخل في ليبيا). وحين يأتي اللفظ على لسان واحد من الروس، فالغالب أنه خطاب تحريضي ضد حلف الأطلنطي، الذي ما انفك يتحرك على الساحة الدولية بحرية، ويحتك بالروس في مواطن نفوذهم كليبيا وسورية، وهم عاجزون عن إيقافه. أما حين يصرخ القذافي محذرًا من حرب صليبية، فيكفي أن نقوله له- على طريقته: من أنت؟! [email protected]