المتابع لمجلة الأزهر في أعدادها الأخيرة يلحظ طفرة كبيرة في ظل السياسة التحريرية الجديدة التى يتبعها رئيس التحرير الجديد المفكر الدكتور محمد عمارة خلفاً للعلامة الراحل الدكتور محمد رجب البيومى , وقد شهد العدد الأخير – شوال 1432 ه - إصدار ملحق بالمجلة بعنوان : " الوثائق الدستورية فى دولة النبوة والخلافة الراشدة " جمعها وشرحها وقدم لها الدكتور محمد عمارة. في عرضه لهذه " الوثائق " يُسلط الدكتور عمارة الأضواء و يلفت الأنظار ويوجه الأفكار إلى حقيقة تاريخية تقول " إن تاريخ أمتنا لم يكن ظلاماً كله.. ويبين د. عمارة إن التناقض بين " التطبيق " في هذا التاريخ , وبين " الفكر " لم يكن كاملاً ولا حاداً ولا دائماً.. وأوضح في تقدمته لهذا البحث إن البعض منا قد قسا ويقسو, وبالغ ويبالغ في تصوير مظالم ذلك التاريخ, لينفر من الظلم والاستبداد, وليزكى الدعوة إلى استلهام فكرنا الغنى, ونحن نجاهد للنهوض بالواقع الذي نعيش فيه.. وهذا مقبول ومفهوم.. وأكد د. عمارة أن الكثيرين من أعداء هذه الأمة, ومعهم نفر من المنتسبين إليها, يسلكون هذا السبيل ليصلوا بواستطه إلى غرض خبيث.. فهم يصورون" تاريخنا " ظلماً وظلاماً, كى ينزعوا سلاح الأمة المتمثل في هذا التاريخ, وهى تواجه ما يفرضونه عليها من تحديات.. وهم يوحون إلى الناظر في تراثنا الفكري أن ما بهذا التراث من حديث عن " السماحة " و " حقوق الإنسان " , هو " فكرى نظرى " لم يوضع يوماً ما في " الممارسة والتطبيق", مستهدفين من وراء ذلك – أيضاً – نزع سلاح الأمة المتمثل في هذا " التراث الفكرى", كى لا يسعى الجيل الحاضر إلى استلهام أصول حضارته وسمات قوميته والجوهرى من معتقداته, وما هو متقدم وفاعل من القيم التى ورثناها عن الأسلاف.. ويرى د. عمارة أن ظلم الماضى ، والقسوة فى تقييم تطبيقات السلف سلاح ماض ذو حدين، قد يدفع الأمة الى عكس ما تريد، وضد ما هو مفيد.. ومن هنا تأتى أهمية إشارة د. عمارة فى هذا التقديم إلى شمول هذه الوثائق ميادين عديدة كادت تغطى مبحث الحقوق الواجبة للإنسان.. ومبحث السماحة مع الآخرين: ففيها الدستور المدون والمصاغ صياغة قانونية والذى صيغ وطبق منذ اللحظات الأولى لتكوين الدولة العربية الاسلامية الاولى.. أى منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. وفيها العهد الدستورى الذى قنن كامل حقوق المواطنة وواجباتها بين المسلمين وغير المسلمين من رعاية الدولة الإسلامية..فى كل الميادين الدينية والمدنية, فساوى بين الذات وبين الآخر جاعلاً منه جزءاً من الذات.. وفيها النصوص التى تحدثت عن العقد السياسى والاجتماعى بين الحاكم(الوالى) وبين المحكومين(الرعية)..والتى قننت الفكر السياسى الضرورى لسياسة الرعية , سياسة تحقق للناس الحقوق ( الإنسانية - الواجبة) .. وفيها التشريع القانونى وتقاليد القضاء وآدابه وضروراته اللازمة للوفاء بتحقيق المساواة والعدالة بين الفرقاء.. وفيها التقنين لجهاز الدولة، والولايات التنفذية، على النحو الذى يجعلها فى خدمة الرعية، لانها وكيلة عنه ومستنابة فى رعاية مصالحها.. وفيها التحديد الواضح لفلسفة الإسلام فى الأموال، كنهر أعظم وعام للأمة،والناس شِربهم فيه سواء.. وفيها الصياغة "البليغة - الدقيقة" لفكرنا الاجتماعى الإسلامى.. ولحدود التمايز الطبقى،والموقف منه.. وللعلاقة المثلى بين "الدولة" ومختلف الطبقات الاجتماعية فى صفوف الرعية.. وفيها موقف حضارتنا من " الثورة " كسبيل من سبل التغيير العنيفة لنظم القهر والظلم والاستبداد.. والموقف من"رد المظالم" وإعادة التوازن لفئات الأمة وطبقاتها عقب الثورات.. وفيها حديث عن "الشورى" التى هى فلسفة نظام الحكم الإسلامى..وكيف كانت هدف الثائرين على نظم "التغلب" وولاة الجور والاستبداد.. وفيها التأكيد على حق الأمة "الطبيعى- الشرعى" بل "واجبها" فى أن تكون مصدر السلطة والسلطان.. إنها نماذج من "الوثائق" تنصف "الفكر" و "التاريخ" معاً وتشهد ل " نظر" المفكرين، ولجهاد الثوار، ول"عدل" كثير من الخلفاء..فتنفى عن تراثنا الحضارى ظلماً عظيماً ألحقه به باحثون كثيرون.. كما تفتح الباب أمام المستقبل، الذى نرجو له أن يكون أكثر إشراقاً.. وأخف فى القيود والعقبات!