علم من أعلام الأزهر المعاصرين الذين كان لهم دور فى إثراء حياتنا الأدبية، فهو شخصية مستنيرة معطاءة، لها الفضل فى رصد نهضتنا الأدبية والإسلامية المعاصرة، بما تركه من مؤلفات ومقالات كانت ومازالت لها الصدى بين أوساط المثقفين والمؤرخين . إنه الدكتور محمد رجب البيومى الذى فقدناه يوم السبت الخامس من فبراير2011 ... رحل دون أن يشعر به أحد ، وسط انشغال الناس بأحداث الثورة التى كانت تجتازها مصر فى ذلك الوقت ، وفى هذا يتشابه مع رحيل الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي الذى رحل والناس مشغولة بمحاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول فلم تحس برحيله ، وقد رصد أمير الشعراء أحمد شوقي هذا الموقف حينما رثى المنفلوطي قائلاً : اخترت يوم الهول يوم وداعي ونعاك فى عصر الرياح الناعي من مات فى فزع القيامة لم يلق قدم تشيع أو حفاوة ساعي
وفى الذكرى الرابعة لرحيله نستعرض له كتاب "الأزهر بين السياسة وحرية الفكر" الذى صدر منذ ثلاثة عقود، إبان الاحتفال بالأزهر فى ألف عام ، فيه يرد على المرجفين الذين لا يقررون للأزهر أى دور حيوي فى المجتمع، والذين يرون الغوث فى كل ما يأتى من الغرب عثه وسمينه .. ناسين أن الأحرار من زعماء الأمة قد تربوا فى هذا المعهد العريق ونشئوا بين أحضانه ..
ويستعرض الدكتور البيومى دور الأزهر فى العصر المملوكي فمنذ أعيد افتتاح الجامع الأزهر الشريف رأى الظاهر بيبرس أن يعيد للأزهر دوره الدينى والثقافي من جديد، فبدأ يجذب رواد القاهرة (التى صارت العاصمة الثقافية بعد أن نكبت العواصم الأخرى بالغزو والتدمير) من العلماء والطلاب، ليعلموا ويتعلموا الجديد فى صحنه وحلقات درسه، جاء العز بن عبدالسلام ومحي الدين النووي، وابن دقيق العيد، وكان لهؤلاء دورهم السياسي والإجتماعى والعلمي وقفوا يناضلون من أجل إرساء العدالة وموقفهم مشهود ومعروف.
ويستشهد المؤلف بالعديد من مواقفه التى تدل على علو منزلتهم وارتفاع شأنهم، ثم يعرج المؤلف ليصف حال الأزهر فى العصر العثماني عندما تصارعت سلطة المماليك والوالي المرسل من قبل الآستانة، وضاع الشعب إثر طمع الحكام ونهمهم إلى جمع المال، وهذا النزاع بين ممثلي الدولة العثمانية وأمراء المماليك كان ذا اثر سيء على الشعب، ويذكر المؤلف نماذج من المواقف المشرفة لشيوخ هذا العصر كالإمام الدردير والشيخ الشرقاوى، الذين وقفوا ضد هؤلاء المماليك وانتصروا للشعب الذى لجاء إليهم وقت المظالم، ورضخ لهم هؤلاء المماليك الغاشمين، ووقعوا على وثيقة تنظم العلاقة بينهم وبين الشعب، هؤلاء الأعلام الذين وقفوا يجاهدون ضد حملة نابليون الاستعمارية، وكان الأزهر مقر الثورة، ويفند البيومى أقوال بعض الكاتبين الذين أجهدوا أنفسهم ليبعدوا العمل النضالي عن الأزهر ورجاله ، ومنهم الشاعر الجهول الذى قال : "لو كنت مكان نابليون ما اكتفيت بهدم الأزهر ولكنني لرميت برجاله فى البحر"، قال ذلك وهو يرفل فى نعيم الاستبداد، ويمدح رجاله وكان هو من أسباب نكسة1967، والحق أن الزعامة الموجهة أثناء الاحتلال فقد خلصت لعلماء الأزهر حتى هرب نابليون فى ليل دامس، هذا الجريء الذى زلزل العروش فى أوربا يهرب كاللص الجبان فى ليل من ضغط المقاومة الأزهرية. ويعرض المؤلف لموقف الأزهر ومكانته عقب رحيل الحملة الفرنسية حيث كان سيد الموقف ودوره فى تعيين محمد على، ويتعرض لزعامة السيد عمر مكرم ، وقد عرف محمد على قدر هؤلاء ودورهم الخطير، وأخذ يسحب البساط تدريجيا من تحت هؤلاء، ويكيد لهم ويزرع بينهم التنازع والصراع، ولكن الجبرتي وقف له بالمرصاد وأخذ يحصى أخطاؤه ومظالمه ، ثم يتحدث المؤلف عن دور الأزهر فى وقائع الثورة العرابية وقائدها عرابي الذى تعلم فى الأزهر وأخذ نصيبه من العلم فى أرجائه وأسس لمواقفه ومنهجه فى ظلال هذا المعهد العريق، وأثناء وقائع الثورة كان للأزهر وموقفه المشرف فوقف رجاله يلعنون مروق الخديو عندما انحاز إلى جانب الاحتلال وبعد انتهاء الثورة وإخفاقها تعرض زعمائها للمحاكمة ، فكان نصيب العلماء فادحاً، إذ منهم من سحب على وجهه واقتيد إلى العدوان على كبر سنه ووهن العظم فمات بعد أن عذب ورمى به فى مستشفى بدائي وهو شيخ المالكية محمد عليش، ومنهم من صودت أمواله ودياره، ثم رمى به إلى المنفى السحيق ومن هؤلاء العلماء عبدالرحمن عليش وقد نفى إلى الآستانة، والشيخ محمد عبده وقد نفى إلى بيروت، وبعد الثورة لم يستسلم العلماء المبعدون للأحزان وما وهنوا، بل كان منهم من ضاعف العمل لمحاربة المستعمر وهو منفى عن البلاد، ومنهم الإمام محمد عبده الذى ترك منفاه بيروت، وذهب إلى باريس، ويلتقي بأستاذه الإمام جمال الدين الأفغاني، ويقابلان أساطين الساسة من الوزراء والنواب، ويكتبان فى الصحافة العالمية، منددين بفظائع الاستعمار فى كل بلد إسلامي، وأنشأ "العروة الوثقى" التى زلزلت أقدام الإنجليز فى الشرق.
ثم يتحدث المؤلف عن ثورة 1919، ودور الأزهر فى وقائعها وأحداثها، وكان الأزهر هو مهد الثورة ومعقلها وقائدها ورمزها سعد زغلول الذى تعلم فى الأزهر، وشارك علماء الأمة يلهبون الحماس ويحشدون الناس وكان أول شهيد للثورة هو نجل أحد علماء الأزهر، ثم ينتقل المؤلف للحديث عن موقف الأزهر من كتاب"الإسلام وأصول الحكم" للشيخ على عبدالرازق وفند أرائه وهو بمثابة "حاشية على عبدالرازق على متن مرجليوث" ، وهو السر الذى كشف عنه الدكتور ضياء الدين الريس فى دراسته الشهيرة "الإسلام والخلافة فى العصر الحديث"، ونادي على عبدالرازق بروحانية الإسلام، وأنه لا يوجد فى تعاليم الإسلام ما يدل على القول "بدولة الإسلام"، مع أنه قد درس هذا فى الأزهر، ووصل إلى أعلى الدرجات وكان من هيئة كبار العلماء ، وكان الخطر الحقيقي من تأليف كتاب على عبدالرازق هو : "هدم مفهوم الإسلام بوصفه ديناً ودولة ونظام مجتمع ومنهج حكم جامع"، ويعرض ردود العلماء حول هذا الكتاب منهم محمد الخضر حسين، وقول الزعيم سعد زغلول، وقد رجع على عبدالرازق عن أفكاره هذه، ومع ذلك يعاد طبع الكتاب من قِبل الدوائر العلمانية دون الإشارة إلى قصة رجوعه هذه، أو إلى رأى سعد زغلول فى الكتاب .
وهذه رسالة موجهة إلى الذين ينعقون فى كل وادي، منددين بتسلط الأزهر وهيمنته على الفكر فى بلادنا، ويرد البيومى على هؤلاء ويفند آرائهم، منهم الكاتب أحمد بهاء الدين الذى زعم فى كتابه "أيام لها تاريخ" الذى يتهم علماء الأزهر بمولاتهم للملك فؤاد فيقول : "أدرك القصة (قصة الخلافة) الأذناب وتجار الدين فبدأوا يبثون الدعوة للخلافة الجديدة التى علقوا بقيامها شرف الإسلام ، والمدركون لهذه المؤامرة لا يتكلمون، لا أحد يستطيع أن ينطق بكلمة ضد فؤاد، ولا أحد يجسر على أن يحصب كهنة الدين بحصاة ... لم يكد يخرج إلى النور حتى هبت فى وجهه الزوابع من جميع الاتجاهات، الملك وأذنابه لأن الكتاب فيه حملة هائلة على الملوك ، وتحطيم لحلم شامل لحلم الخلافة البراق ورجال الدين ثاروا لأنهم رأوا فى هذا المنطق ما يزعزع سلطانهم، ويعقل منافعهم فى الاتجار بالدين، ويكشف عن هذه العمائم التى لا ترتفع إلا لتستر وراءها الظلم والاستبداد"، ويرد عليه : "وأنى لأساله أين سلطان رجال الدين الإسلامى الذين يخافون عليه ؟ أكان فى الإسلام كما فى الكنيسة سلطان لرجال الدين ؟ ومتى كان لهم فى مصر حين صدر الكتاب ؟!! أليس شيخ الأزهر وهو رئيس هؤلاء موظفاً يولى ويعزل كسائر الموظفين فأين سلطانه إذن ؟ ومتى اتجر الأزهريون بدينهم وفى أى قضية عاصرها الكاتب"... ثم يسرد البيومى موقف الأزهر من "كتاب الشعر الجاهلي" لطه حسين وعرض لجميع الردود عليه، ثم يتراجع طه حسين عن ذلك كلية ، ويحذف منه الفصل الذى أنكر فيه وجود إبراهيم وإسماعيل ويعيد طباعته تحت عنوان " فى الأدب الجاهلي"، ثم يفرد البيومى فصلاً للحديث عن دعوة الشيخ محمد عرفة، ذلك العالم الأزهري الذى دعا فى بحث مفرد له إلى السلام الإجتماعى فى ذلك الوقت الذى استعرت الحروب فى الغرب ومنها الحرب العالمية الثانية وضرب اليابان بالقنبلة الذرية وكثر الحديث عن مصائبها الهائلة.
ثم يختم الكاتب سفره النفيس بعنوان "بين السياسة وحرية الفكر"، يجمل فيه ما بثه فى أرجاء الكتاب من مواقف مشهودة لعلماء الأزهر عبر تاريخه المجيد فى النهاية نقرر أن هذا الكتاب لجدير بالطباعة مرة أخرى حتى تعم الفائدة ويستفاد الناس مما ورد فى متنه من علم غزير.