رغم خطاب الكراهية المتصاعد في أوروبا ضد الإسلام والمسلمين, على خلفية الهجوم الدموي على الصحيفة الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو", إلا أن هناك أصواتا غربية سارعت لإنصاف الدين الحنيف, والتحذير من عواقب الاستمرار في الربط بينه, وبين "الإرهاب". وعلقت صحيفة "الجارديان" البريطانية في تقرير لها في 9 يناير بأنه لا ينبغي إلقاء ملامة هذه المجزرة على مسلمي فرنسا, الذين روّعهم هؤلاء المجرمون, ووجدوا أنفسهم يواجهون رد فعل عنيف. وعزت الصحيفة سبب المجزرة إلى رواسب تاريخية قبل نحو نصف قرن، وأنه لا يزال هناك شعور قوي بالاستياء بين المجتمعات المغتربة, التي تعيش في المناطق السكنية بضواحي العاصمة الفرنسية، وكثير منهم مسلمون, أصلهم من شمال إفريقيا, ويشكون من أن التمييز ضدهم يمتد إلى كل ميادين الحياة، من السكن والعمل, إلى حق التعبير الديني. وأشارت "الجارديان"إلى أن خطاب الكراهية ضد الدين ساد في فرنسا الحديثة, ويتم التلاعب به لأغراض سياسية من قبل اليمينيين واليساريين، كما أن سياسة الهجرة تشكل جزءا أساسيا لكل هذا الخطاب. وأوردت الصحيفة أسماء ضحايا الهجوم, وكان بينهم اثنان من المسلمين, في تأكيد جديد على أن الإرهاب لا دين له, وأن ضحاياه مسلمون أيضا. وضحايا الهجوم ال12، ستيفان شاربونييه (47 سنة) رئيس تحرير الصحيفة، وجان كابو (75 سنة) من أشهر رسامي الكاريكاتير في فرنسا، وأيضا رسام الكاريكاتير جورج وولينسكي (80 سنة)، ورسام الكاريكاتير برنار فيرلاك (58 سنة)، وبرنار ماريس (68 سنة) وهو اقتصادي وصحفي، وفيليب أونور (73 سنة) رسام، وميشيل رينود صحفي زائر بالصحيفة، وإلسا كايات الأنثى الوحيدة بين الضحايا في الهجوم وكانت محللة نفسية، وأحمد مرابط "مسلم", وهو شرطي بمخفر الشرطة المحلي بالقرب من الصحيفة، ومصطفى أوراد "مسلم", وكان يعمل مدققا لغويا بالصحيفة، وفرانك برينسولارو (49 سنة) حارس أمن بالصحيفة، وفريدريك بواسو عامل صيانة بمبني الصحيفة. وبدورها, غردت صحيفة "الفايننشال تايمز" البريطانية أيضا خارج السرب, ونشرت مقالا في 8 يناير للكاتب توني باربر ينصف الإسلام والمسلمين, بل ويحمل صحيفة "شارلي إيبدو", مسئولية ما حدث لها, بسبب تعمدها الإساءة ل"النبي محمد". ووصف باربر الصحف التي تنشر الصور المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم), مثل "شارلي إيبدو", وصحيفة "إيلاند بوستن" الدانماركية, بأنها "غبية". وقال :"إن بعضا من المنطق السليم سيكون مجديا لصحف مثل شارلي إيبدو وإيلاند بوستن الدانماركية, التي ينم محتواها عن توجيه ضربة للحرية, عندما تستفز المسلمين، لكنها في حقيقة الأمر غبية تماما". وتابع الكاتب أن للصحيفة الفرنسية سجل حافل بالسخرية وإغضاب المسلمين واستثارتهم، مضيفا " قبل عامين, نشرت الصحيفة كتابا من 65 صفحة يحوي رسوما كاريكاتيرية ساخرة عن حياة النبي محمد ". ومضى باربر إلى القول إنه يتفهم "المشاعر الجياشة" التي طغت على الناس في فرنسا بعد الهجوم على "شارلي إيبدو"، مشيرا إلى أن هذا الهجوم ستكون له تداعياته على الحياة السياسية في فرنسا, وسيصب على وجه الخصوص في مصلحة مارين لو بان وحزبها اليميني المتطرف "الجبهة الوطنية". وفي السياق ذاته, قالت صحيفة "الديلي تليجراف" البريطانية في تقرير لها في 9 يناير إنه بعد أن تهدأ الأمور نسبيا سيدور النقاش حول الإسلام، وسيزعم البعض أن لدى الغرب "مشكلة إسلامية"، وسيتفقون مع زعيم حزب الاستقلال البريطاني اليميني نايجل فاراج, الذي يزعم أن بريطانيا لديها "طابور خامس" من المسلمين يتربص بها. ونبهت الصحيفة إلى عدم الوقوع في حالة من الاستقطاب, بسبب هذا الحادث، وأن نقاشا حقيقيا يجب أن يبدأ الآن، بينما لا يزال هناك وقت لأناس لديهم حسن النية للوصول إلى توافق معقول والبدء في البحث عن إجابات "عما يسبب هذا التباعد بين أوروبا, وبين جيرانها المسلمين"، لأنه لا يمكن النكوص مرة أخرى إلى "ادعاء أن الإسلام دين بني على الكراهية". وبدوره, قال الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف :"إن حوادث الإرهاب تجعل العديد من الغربيين ينظرون إلى الإسلام على أنه بطبيعته متطرفًا، لكن هذا التفكير سطحي وبسيط، ولا يجب أن نلوم الإسلام في الهجوم على الصحيفة الفرنسية". وأضاف الكاتب في مقال نشرته له صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في 8 يناير أن من يتصدرون عناوين الصحف هم أعداد صغيرة من الإرهابيين، لكنهم لا يمثلون دين الإسلام المتنوع , الذي يصل عدد معتنقيه ل 1.6 مليار مسلم. وأشار إلى أن موقع "تويتر"، كان يعج يوم الهجوم بتغريدات من مسلمين يستنكرون الهجوم، ويقولون إن هجوم المتعصبين على الصحيفة الفرنسية هو إساءة إلى "النبي محمد", أكبر بكثير من إساءة رسامي الكاريكاتير له. وتابع أنه ليس بوسع الغالبية العظمى من المسلمين فعل شيء أمام هذه الهجمات، بينما يصبحون بشكل غير متناسب ضحايا الإرهاب. واستطرد " الرسم الكرتوني المسيء سخيف، ويجب أن نحذر من السخرية من دين متنوع, مثل الإسلام، دعونا نعترف أيضا أن أكثر شعب محب للسلام في الشرق الأوسط , والذين يقفون في وجه المتعصبين, هم مسلمون متدينون". وكانت مصادر أمنية فرنسية أفادت في 9 يناير بمقتل الشقيقين سعيد وشريف كواشي، المشتبه بتنفيذهما الهجوم على أسبوعية "شارلي إيبدو" في 7 يناير, والذي أسفر عن مقتل 12 شخصا وإصابة 11 آخربن. وذكرت وكالة الصحافة الفرنسية أن قوات الأمن اقتحمت مطبعة في بلدة "دامارتون أون غول" في شمال شرقي باريس, تحصن فيها الشقيقان سعيد وشريف كواشي، واللذين قتلا إثر تبادل لإطلاق النار مع الشرطة, مشيرة إلى أنه تم إنقاذ رهينة, كانت محتجزة بالمطبعة, ومن جهته، قال مراسل قناة "الجزيرة" نور الدين بوزيان من محيط المطبعة, إن قوات خاصة قامت بعملية إنزال قبل اقتحام مقر اختباء الأخوين كواشي، واستعملت قنابل مضيئة تعمي النظر، مشيرا إلى سماع إطلاق نار كثيف ودوي انفجارات ووصول تعزيزات أمنية وسيارات إسعاف إلى مكان العملية. وجاء في تقرير ل"الجزيرة", أنه إذا كان العالم أجمع بات يعرف أن الشخصين المشتبه في تنفيذهما عملية "شارلي إيبدو" من أبناء الجالية الإسلامية المحلية، فإن هناك حقيقة أخرى تبدو أقل تداولا في الإعلام الغربي ، ألا وهي أن اثنين من مسلمي فرنسا, لقيا حتفهما ضمن ضحايا الهجوم ال12. الأول هو شرطي يدعى أحمد مرابط، فارق الحياة بعد ما حاول منع المهاجمين من الهروب، أما الثاني فهو مصطفى أوراد، المدقق اللغوي ل"شارلي إيبدو"، الذي امتزجت دماؤه بدماء زملائه في الصحيفة الساخرة. وكان أحمد مرابط (42 عاما)، الذي نجح لتوه في مسابقة الترقية لسلك ضباط الشرطة، في دورية بالقرب من مقر الجريدة، حينما شاهد سيارة المشتبه بهما تخترق شارع ريشار لونوار بالدائرة ال11بباريس، وأطلق النار باتجاهها لإحباط فرارهما. وبعد تبادل سريع لإطلاق النار سقط أحمد, ذو الأصول التونسية, قتيلا على رصيف الشارع. وحسب شهادات زملاء أحمد ، كان الضحية معروفا بالاستقامة والتفاني في العمل، ودأب على تكريس أوقات فراغه للاهتمام بزوجته وطفليه، وفور الإعلان عن مصرعه، توافد عشرات الأشخاص على مركز الشرطة الذي كان يعمل فيه، حاملين باقات من الورود للتعبير عن تأثرهم بمقتله وعرفانهم بالجميل له. وحرصت إيزابيل، وهي سيدة تدير مقهى بالقرب من مركز الشرطة، على تأبينه, قائلة :"حقا، كان أحمد رجلا طيبا ودودا لا تغادر البسمة محياه"، وأضافت أنه "كان يشعر بالإهانة حينما يسمع الاتهامات التي تُكال لرجال الشرطة لا سيما أنه كان عربيا". وانتقدت إيزابيل وسائل الإعلام التي "لا تتحدث إلا عن المجرمين، بينما يتعين عليها أن تُعرّف الناس بتضحية أحمد". ولم يكن مرابط, الشخص الوحيد الذي لم ينل حقه في التغطيات الصحفية للحادث، فهناك أيضا المدقق اللغوي مصطفى أوراد (ستون عاما)، ابن منطقة القبائل في الجزائر, الذي لم تستثنه زخات الرصاص, التي أطلقها المهاجمان على أعضاء هيئة تحرير "شارلي إيبدو" أثناء اجتماعهم الأسبوعي يوم الأربعاء الموافق 7 يناير. ولم يكن من عادة هذا الرجل -الذي يوصف بأنه صاحب ثقافة موسوعية- منذ التحاقه بالصحيفة عام 1997، أن يحضر مثل تلك الاجتماعات، كان يأتي إلى مقر الجريدة يوم الاثنين ليسخر موهبته اللغوية المشهود له بها في ضبط نصوص المواد المعدة للنشر في العدد المقبل من الأسبوعية، بيد أنه استُدعي للاجتماع الأخير, كي يضع اللمسات الأخيرة على عدد خاص كانت هيئة التحرير تنوي إصداره. ولم يترك المهاجمان لمصطفى فرصة التمتع بالجنسية الفرنسية, التي حصل عليها للتو بعد أكثر من أربعين سنة من الإقامة والعمل في البلاد، كما حرماه من وداع ابنيه وقطعا أمامه طريق العودة إلى الجزائر التي لم تطأ أرضها قدماه منذ 33 سنة. وأوراد من مواليد بلدة آيت بولاية تيزي أوزو شمالي الجزائر، قبل أن يسافر إلى فرنسا لدراسة الطب والصحافة, وعمل متعاونا مع وسائل إعلام عدة، وظل لسنوات طويلة أحد أركان المجلة الشهرية "فيفا" قبل التحاقه بشارلي إيبدو، عُرف عنه أنه كان عصاميا متبحرا في الآداب الفرنسية والفلسفة الغربية, وخبيرا في تاريخ بلدان الشمال الإفريقي. ويؤكد زملاؤه الناجون من الهجوم أنه كان "مؤمنا بالإنسان"، وظل التفاؤل سمته الأساسية حتى نهايته المأساوية، وتجمع شهادات كل الذين عرفوه أنه كان ينفر من الأضواء والصخب، وأنه لو خُيّر لفضل أن يرحل عن الحياة, دون أن يعلم به أحد.