نستكمل معا هذه السلسلة الرمضانية "خارطة الطريق من يوسف الصديق" في استراحة من السياسة وصخبها في هذا الشهر الكريم,وحلقة اليوم بعنوان" يوسف ينقذ مصرا", فقد ساقت لنا السورة اربع رؤى : رؤيا خاصة بيوسف عليه السلام, ورؤيتين خاصتين برفيقين من رفاق السجن, ورؤيا رابعة تتعلق بالحاكم والأمة. الأولي :[إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)] .. والثانية والثالثة : [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)].. أما الرابعة : [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)].. وإذ نرى أن منها رؤيا عابرة منقطعة,هي رؤية حامل الخبز(الهالك),بينما الرؤى الأخرى كانت كل واحدة بمثابة معبر أو جسر للرؤيا التالية, فالرؤيا الأولي أسفرت عن حسد من إخوة يوسف عليه مما نجم عنه امتحانات وابتلاءات انتهت بيوسف عليه السلام الى السجن , ليتعرف على صاحب الرؤيا الثانية ( الناجي) , والذي سيسوق له الرؤيا الثالثة , وعن طريق تفسير الرؤيا الثالثة سيتحقق له بفضل الله التمكين والريادة . وهكذا تبدو الحياة بما فيها من أحداث ومواقف,منها العابر, ومنها المرتبط بعضه ببعض,منها الوقتي (كرؤيا الهالك), ومنها المستمر, منها العاجل ومنها المؤجل ( إذ قام يوسف عليه السلام بالتأويل الفورى لكل الرؤي , بينما ترك الرؤيا الاستراتيجية حتى تحققت وهي الرؤيا الخاصة به ,إذ لم يقم بتأويلها , بل رأينا كيف أن الأحداث المتتالية وكأنها تؤدي اليها: [ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا]. وربما يعني ذلك , اهتمام الفرد والجماعة بالأهداف المرحلية وأهمية العمل المناسب لها,دون اغفال الأهداف الاستراتيجية والتي قد تتحقق تلقائيا كثمرة كلية بعد تحقق النتائج الجزئية أو المرحلية على الطريق. لقد ارتبط تأويل تلك الرؤى جميعها بالمستقبل (على مستوي الفرد والجماعة),ودارت أحداث القصة كلها في سياقها – لندرك معها )أهمية التخطيط للمستقبل(, انطلاقا من فهم صحيح للواقع. وقد رأينا أن يوسف عليه السلام قد صاغ للملك ملامح خطة عامة , لكن تلك الملامح العامة كانت تتطلب بعد ذلك خططا ووسائل وأهداف وتنفيذ ومتابعة , وهي تنبثق أولا من رؤية محددة , تنبثق منها استراتيجية وفق ظروف الواقع لادارة المرحلة, ووضع لها هدف كبير يصبو اليه, لا يقتصر فقط على عبور الأزمة عبورا آمنا, إنما يتعدى ذلك الى تحقيق الوفرة والرخاء. إن يوسف عليه السلام لم يكتف بفك " شفرة رؤيا الملك" فقط, كما فعل مع رفيقي السجن, ربما لأن الأمور التي تتعلق بالأشخاص تختلف عن الأمور تتعلق بالأمة, فقد كان تأويل رمزية السبع بقرات السمان أنها سنوات سبع من الرخاء والوفرة,والبقرات الهزيلة كانت تعني سبع سنوات من القحط والجدب, وكذلك السنبلات الخضر واليابسات (الى هنا انتهت رؤيا الملك)..لكنه انطلق من التأويل الى وضع الحلول, والتي لم تتطرق لها الرؤيا, كما أن الرؤيا" لم يكن بها رمزبة" عن العام الخامس عشر, وهذا يعني أهمية أن يتجاوز القائد أو السياسي أو المصلح أو الاقتصادي تشخيص المشكلات انتقالا الى الحلول, وأن يكون هدفه الأكبر تحقيق الوفرة والرخاء, وليس فقط تجاوز أو ادارة الأزمات. إننا لا نستطيع تأويل كما كان يفعل يوسف عليه السلام , لكننا يمكننا تتبع طريقته في التخطيط والتنفيذ, فيما لم تتضمنها الرؤيا, والتي بدت أنها كانت على النحو التالي : 1/ التحديد الدقيق للمشكلة: ( سبع سنوات من الرخاء يعقبها سبع سنوات من الجدب والقحط) 2/ دراسة الواقع :( دراسة الامكانات والموارد المتاحة والاستهلاك المتوقع , وامكانية اتساع القحط ليشمل البلدان المجاورة, وهو ما يتطلب استنفار خاص). 3/ دراسة البدائل الممكنة : اننا نظن أن يوسف عليه السلام قد نظر في البدائل المتاحة, فقد كان من الممكن, الاعتماد على " استيراد الحبوب من خارج مصر" وفقا لأنظمة المقايضة التي كانت سارية في ذلك الوقت, وكان من الممكن الاعتماد على زراعات بديلة, لكن الجدب ربما كان واسعا بحيث يشمل المناطق المجاورة لمصر, وهو ما حدث فعلا, إذ أتى سكان البلدان المجاورة يلتمسون من مصر قمحا لغذائهم, وايضا لم يكن من الممكن الاعتماد على الزراعات البديلة لظروف القحط والجدب . 4/ اختيار البديل المناسب : الاعتماد على الموارد الذاتية وتغظيمها بهمة ونشاط ( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) "– الادخار والتخزين المثالي ( فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) - ترشيد كبير لاستخدام الموارد ( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) - استغلال سنوات الرخاء لتكوين أرصدة مدخرة لسنوات القحط ( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ). 5/ وضع خطط تفصيلية: فالخطة العامة ستتطلب خططا تفصيلية , تتطلب توفير صوامع لتخزين الغلال, وأماكنها واختيار الرجال القائمين عليها, واساليب التوزيع لضمان وصول الحبوب لمستحقيها دون جور أو اجحاف. 6/ التنفيذ الصارم لخطة التوزيع : محققا للعدالة الاجتماعية, وهكذا, ادار "الأزمة" بالامكانات المادية والبشرية المتاحة بكفاءة واقتدار, لم تعصم مصر فحسب من شر المجاعة بل عصمت المنطقة بأسرها, وفاض خير مصر على البلدان المجاورة بفضل الله أولا ثم بفضل التخطيط المنظم الدقيق والإدارة صاحبة الكفاءة والأمانة , فتحقق الخير والنفع . 7/ المتابعة الدقيقة : لقد رأينا كيف كان يشرف بنفسه أو من خلال اجهزته على حسن توزيع الحبوب على الناس حتى لمن قدموا من خارج مصر كما جرى في حواره مع إخوته 8/ التطلع الى الرخاء والوفرة : لقد كانت خطة يوسف عليه السلام (كما ذكرنا) تصبو لتحقيق الرخاء وليس فقط اجتياز الأزمة, إذ كانت رؤيا الملك تتعلق بسنوات الرخاء والتي يعقبها سنوات قحط, لكنه تحدث عن (عام) من الرخاء, يعقب تلك السنوات جميعها, ولم يكن لذلك العام "رمزية" في رؤيا الملك."ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)". . لندرك أن الحاكم أو المسئول أو القائد الذي يسوس أمر الناس لا يجب أن يضع نصب عينيه فقط أو يتقيد بالأزمات, لكنه عليه أن يتطلع بخطة ومناهج ورجال وسياسات الى تحقيق الرخاء والوفرة للناس.. وإذا كان ذلك يسري على مستوى الجماعة والدولة , فإنه يسري على مستوى الفرد, فكما جاء في سنن ابي داوود من كتاب الوصايا, من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص قال له: "أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". وإذ يتطلع المرء على واقعنا المعاصر, ونحن نرى شبابا من أمتنا يعبرون البحار في مخاطر جمة سعيا لهجرة الى بلد أخر لعلهم يجدون فيه عملا ورزقا, ويقف بعضهم صفوفا متراصة أمام بعض السفارات أملا في الحصول على فرصة عمل أو تأشيرة دخول لبلد أخر هربا من واقع مظلم كئيب , ونرى معظم أنظمتنا وهي تستورد قمحنا وجل طعامنا , بل وسلاحنا , ونقارن ذلك بما عرفناه من قرآننا , حيث رأينا أهمية العمل المنظم المخطط له جيدا على مستوى الفرد والمجتمع , ورأينا أن إدارة العمل تتطلب علما وأمانة , ونتذكر يوما كانت فيه مصر مهوى الافئدة , وملاذ المحتاجين , وسلة الغلال , لندرك كيف كنا وكيف أصبحنا, نسأل الله سبحانه أن يوفق أمتنا لما فيه خيرها .