أعترف بأني مررت بواحد من أسوأ أيام حياتي أمس ، وندمت أني شاهدت الشريط الذي بثه تنظيم "بيت المقدس" عن عملية "كرم القواديس" الإرهابية ، فقد أطار النوم من عيني طويلا ، وبعض مشاهده تحولت إلى كابوس أمرضني ، فقد تملكني الإحساس بالخوف على البلد ومستقبله ، وعلى أبنائه ، وعلى مقدراته ، أعرف أن تلك معركة عبثية من قبل التنظيمات التي تتخذ الإرهاب سبيلا لمحاولة فرض إرادتها ، وأعرف أن تلك المعركة بلا أفق ، ولن تفضي لنصر للإرهابيين أبدا ، ولكني أدرك أيضا أن ما شاهدته يعني أن البلد مقبلة على حرب استنزاف طويلة ، وفي ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية معاندة ، ولا تساعد على الاستمرار بسهولة في مثل تلك المواجهات ، فقد وضح من العملية أن المهاجمين يمتلكون قدرات قتالية ليست من فعل الهواة ، كما أن بأيديهم أسلحة نوعية وحديثة ، أيا كان مصدرها ، كما أن الأجواء المحيطة بمصر في المنطقة العربية والعالم بما تشهده من موجة علو للأعمال المشابهة والحركات المشابهة وما أحدثه ظهور "داعش" في خيال الأجيال المتشددة الجديدة ، كل ذلك يمنحهم دافعا معنويا للاستمرار مهما كانت خسائرهم . وأعترف أيضا ، بأنه رغم وضوح ما كتبته أمس ، ورغم اعتقادي بأني كنت أتحدث في مسلمات يعرفها الاجتماع السياسي بداهة ، إلا أن ما وصلني من ردود الفعل المتباينة عليها والتي وصلت إلى حد التناقض الكامل يعني أننا في مصر سنعاني طويلا من الانقسام الوطني بما يحمله من اختلاف حاد في رؤية طبيعة المشكلة التي نواجهها وعمقها وأسبابها وبالتالي الاختلاف الحاد في طريقة علاجها ، بين من يرى أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وأنه لا حل إلا بالإجراءات الاستثنائية وتعليق الديمقراطية وأن أي حدث عن مراجعات أو إصلاحات أو تصويب المسار هو إضعاف لموقف الجيش وهو من أعمال ومؤامرات الطابور الخامس ، وبين من يرى أن مواجهة الإرهاب لن تكون إلا عبر منظومة كاملة من الإصلاح السياسي والقانوني والإنساني والاجتماعي والثقافي ، وأما تلك الأصوات "الشاذة" التي انشغلت بالتشفي في هذا الطرف أو ذاك لتصفي مرارات سياسية على حساب محنة الوطن ، فإنها أهون وأضل من أن نتوقف عندها . ما زلت عند قناعتي بأن مصر ، التي تتعرض لخطر وجودي بالفعل كما قال السيسي مرارا ، في حاجة لمراجعة شجاعة لمسارها الحالي ، قبل أن تجرفنا تيارات الفوضى والدم التي تجتاح المنطقة كلها بسبب العناد السياسي "وركوب الرأس" ، مراجعة تعيد الاصطفاف الوطني كاملا وواضحا وحاسما مع القوات المسلحة في معركتها ، بل معركة الوطن كله ، ضد الإرهاب ، مراجعة توقف نزيف الدم والانقسام السياسي في الداخل على خلفية صراعات على السلطة اتخذت صورا وأشكالا مختلفة بعد أن دفعت كل الأطراف الأزمة إلى محرقة المعادلات الصفرية في الصراع السياسي ، وهي معادلات كما قلت ذلك مرارا من قبل مدمرة ، لأن كل طرف يبحث عن كسب كل شيء وسحق الآخر سحقا تاما . ما زالت قناعتي أن هزيمة الإرهاب ليست مجرد عمل عسكري ، فهذا يطول أمره وعذابه وتضحياته ومشواره ونزيفه ، ولكنها عمل سياسي واقتصادي وقانوني وإنساني يعيد الحيوية لقلب مصر السياسي والاجتماعي ويفتح أبواب الأمل للشباب الجديد ، بشكل حقيقي وعملي ومؤسسي وليس بالدجل والتهجيص الإعلامي ، ويجعل الجيش يرجع عدة خطوات عن ميدان السياسة ، ليتفرغ لمهماته الأساسية والتاريخية دون تشتيت أو تحمل مسؤولية ما لا يطاق في السياسة والاقتصاد والأمن والدين والإعلام والتشريع ، وليترك القوى المدنية الجديدة تتحمل مسؤولياتها وتشارك في بناء الوطن وقيادته لمستقبل أفضل ، افتحوا السجون والمعتقلات وصفوها ، وافتحوا الحوار الواسع في الجامعات ، وأطلقوا العنان للمجتمع المدني لتأسيس منظماته وجمعياته لتضخ وعيا وخيرا في كل شرايين المجتمع ، وأطلقوا لكل أبناء مصر حرية تكوين الأحزاب والروابط والنشاطات السياسية ، وافتحوا أبواب المشاركة الفاعلة والحرة والشفافة أمام كل خلايا المجتمع في الانتخابات البرلمانية المقبلة ، هذه الروح المنعشة والملهمة التي عاشتها مصر عقب ثورة يناير ، هي وحدها التي "تجفف المستنقع" الكئيب الآسن الذي يساعد على انتشار "بعوض الإرهاب" وتوالده وتكاثره ، هي وحدها التي تحرمه من أي مدد معنوي أو سياسي أو ديني أو تعبوي أو مادي ، وبالتالي يضمر تلقائيا مع الوقت ويفقد قدرته على التكاثر أو الاستمرار . لا ينبغي أن يكون "بعبع" الإخوان حاكما على توجهات صناع السياسة الآن وبعض القوى الهامشية الانتهازية ، مسارات الانتخابات في مصر كانت تعطي مؤشرا واضحا لانحسار "الهيبة" تدريجيا عن الأحزاب الإسلامية بعد وقت ليس بالطويل من ثورة يناير وبعد أن اندمجت في عالم السياسة بكل سوءاته وإحراجاته وفضائحه وأخرجتهم من سحر وجاذبية المظلومية التاريخية إلى عبء المسؤولية وانكشافاتها ، وفي آخر انتخابات ، انتخابات الرئاسة بين مرسي وشفيق ، وصلت النسبة لأدنى مستوياتها ، أكثر من النصف بواحد في المائة تقريبا ، بعد أن كانت قبل عام واحد تتجاوز السبعين في المائة ، كما أن التجربة التونسية كاشفة أيضا ، فبعد أن كانت حركة النهضة "إخوان تونس" تفوز سابقا بما يتجاوز الخمسين في المائة وتشكل الحكومة وتحدد الرئاسة والبرلمان ، عجزت في الانتخابات الأخيرة عن الوصول إلى الثلث ، فالديمقراطية لها ميزة أنها تملك "ميكانيزم" التصحيح الذاتي للاختيار ، أو كما قالوا : علاج أخطاء الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية ، والناس يتزايد وعيها مع الوقت ومناخ الحرية الحقيقي الذي يمنحها فرصة الاختيار والتدقيق ، وتبحث عمن يحقق "الإنجاز" على الأرض ويحمي الحريات ، وليس من يقدم الشعارات حتى لو كانت دينية ، كما أن اندفاعات الشوارع التي تفشت بصورة عبثية بعد الثورة غير قابلة للعودة لأن الظروف تغيرت والدروس وصلت الجميع ، فلا ينبغي أن نعيش مثل تلك الهواجس طويلا أو نجعلها حاكمة وآسرة لأفكارنا ومراجعاتنا لمسار الوطن . ولا زال تاريخ مصر السياسي الحديث كله يشهد ، بأن الإجراءات الاستثنائية وتضييق هامش الحريات ومحاصرة العمل السياسي وملاحقة منظمات المجتمع المدني هو الداعم الأساس لنفوذ الإخوان اجتماعيا وسياسيا وكذلك هو المناخ الذي يولد إرهاب التنظيمات المتطرفة ، والعكس صحيح ، فاتساع هامش الحرية والحيوية السياسية وقوة الأحزاب السياسية وتوهج الحركات الشبابية وقوة حركة المجتمع المدني هو الذي يفتح كل مسام جسم الوطن وينشط خلاياه ويقلل من مساحات الفراغ الذي تملأه الجماعات والتنظيمات ، ودرس ثورة يناير أوضح ما يكون في ذلك ، باستثناء الأشهر الأولى أو السنة الأولى التي كانت لها مشكلات عارضة واستثنائية بسبب صدمة الحرية وصدمة الديمقراطية والهياج الثوري بعد طول كبت وانغلاق ، وسرعان ما بدأ الحراك السياسي يصحح نفسه وموازينه ، قبل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب بعد تولي الرئيس الأسبق محمد مرسي للرئاسة . التحدي الأخطر لمصر هذه الأيام التي تمثل مفترق طرق تاريخي هو تحدي التوحد والتماسك والتسامح ، من يتابع مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الانترنت والفضائيات يرى الوطن يعيش تمزقا بالغ الخطورة ومشاعر متناقضة ومتعاركة تملأها الأحقاد والثارات والكراهية ، مصر أحوج ما تكون اليوم لروح التسامح والانتصار على الغضب لإعادة بناء الوطن وإنقاذ السفينة من الغرق ، فالقوة والاعتداد بالنفس والقدرات ليست مرادفا للبطش أو النيل من الخصم أو قهره ، فهذا طريق قد يشفي بعض النفوس مؤقتا لكن عواقبه وخيمة ومدمرة في هموم بلد بحجم مصر ، وإنما القوة والثقة أكثر التصاقا بالانتصار على النفس وكبح الغضب والسيطرة عليه ، وإعلاء المصلحة العامة على المصالح الضيقة وقصيرة النفس والنظر ، وهذا تحدي يواجه السلطة والمعارضة معا ، بكل تياراتها . ربما كانت مصر الآن أحوج ما تكون هذه الأيام إلى مؤتمر وطني جامع ، تبتعد عنه أصوات المزايدات الرخيصة وخبراء الزور الذين يملأون شاشات الفضائيات وحكماء الدجل الإعلامي وأصوات التطرف من كل الاتجاهات ، بل يكون المؤتمر كله بعيدا عن الإعلام الممزق بين مصالح رجال الأعمال وثأر رجال مبارك العائدين ، مؤتمر يجتمع فيه نبلاء الوطن ونخبته الجادة لتدارس حال الأمة وحال محيطها السياسي والإنساني ، ومجمل ما جرى منذ ثورة يناير وحتى الآن ، لنحدد : أين الخلل ، وبالتالي نحدد : أين المخرج وما هو طريق الإنقاذ .