أرجو أن نحتفظ بالمسافة الكافية للتمييز بين هؤلاء الذين يتاجرون بالثورة وبين الثورة ذاتها ، لأني أخشى أن يكون الخلط بين الاثنين مدعاة للإساءة إلى الحدث الأجمل في تاريخ مصر والعالم العربي ، فالتنبيهات التي وردت في المقال السابق عن "النضال اللذيذ" قصدت بها كشف الغطاء عن المتاجرين بالثورة وأولئك الذين يحاولون الآن سرقتها أو امتطاء حصانها لتوجيه مصر إلى وجهة أخرى غير تلك التي من أجلها ثار ملايين المصريين على نظام مبارك ومنظومة الفساد والقمع ، فالغالبية الساحقة من الشباب المصري الذي شارك في الثورة والذين ضحوا من أجل انتصارها وكانوا وقودها هم أشرف وأنبل الأجيال التي ولدت من رحم وطن المعاناة والظلم والتهميش والاستباحة الأمنية والسياسية والاقتصادية ، هؤلاء الشباب الذين اندفعوا إلى الميادين والشوارع أثناء الثورة لم يتمردوا فقط على مبارك ونظامه ، بل تمردوا على مجمل الحالة السياسية والحزبية في مصر ، شباب كل التيارات السياسية كسروا الحواجز النفسية وتمردوا على قياداتهم ، إخوان وسلفيون وجماعات إسلامية مختلفة ويساريين وناصريين وليبراليين ، الكل خرج إلى الشوارع والميادين بدون انتظار توجيه من أحد أو مشورة أحد ، كلهم تجردوا من أجل نصر هذا الوطن الذي طال شوقه للتحرر ، وكلهم كانوا مصرين على كسر "الصنم" وإسقاط مبارك ونظامه . ليس عن هؤلاء نتحدث قطعا ، وإنما عن المتاجرين بنضال هؤلاء ، وكثير من هؤلاء التجار لم نعرفهم في ميدان التحرير إلا بعد انجلاء المواجهات وزوال الخطر وبروز ملامح الانتصار ، وبعضهم أتى بعد ذهاب مبارك نفسه لكي يتمسح في الثورة وميدان التحرير ، هؤلاء الذين يكثرون عند الطمع والحصاد ويقلون عن الجزع والتضحيات هم الخطر على الثورة ، لأن محركهم هو الانتهازية ومحاولة اختطاف ثمار تضحيات ملايين المصريين ، وهؤلاء ينبغي كشفهم ووقفهم عند حدودهم اللائقة بهم ، أنا لا أعرف من هو "محمود قابيل" الممثل على سبيل المثال الذي استقبله البعض في ميدان التحرير قبل عدة أيام كما لو كان أحمد عرابي أو سعد زغلول لكي يخطب في المعتصمين مهددا للمجلس العسكري ومطالبا له بالاعتذار للشعب وأن الشرعية الوحيدة في مصر هي شرعية ميدان التحرير ، وكلام "هايف" من هذه النوعية ، مترع بالمزايدة الرخيصة وسط هتافات الحاضرين ، من هذا البني آدم ، ومن الذي زج به وسط الثوار ، ومن فوضه أن يتحدث باسمهم ، بل من جعله يقف بينهم أساسا ، والكارثة أن يحدث هذا في الوقت الذي يقوم فيه متظاهرون في الميدان بإخراج الدكتور صفوت حجازي منه بوصفه ضد الثورة ، في حين يعرف الجميع أن صفوت حجازي هو بطل ثورة ميدان التحرير الأول ، وهو "الفارس" الذي أنقذ الميدان من المذبحة في موقعة الجمل عندما حشد الآلاف من أنصاره وخاضوا معركة بطولية انتهت بدحر المهاجمين ، هذا المشهد الفضائحي ، ربما كان كافيا كعنوان يمكن أن نقرأ تحته تفاصيل كثيرة في ما يجري في خفاء . أيضا يكون من الضروري أن نكشف الغطاء عن بعض "الطامحين" من شركاء الثورة في أن يختطفوا المركب كله ، مركب الوطن ، ويذهبوا به بعيدا وفق أهوائهم وتصوراتهم ، ظانين أن الشعب المصري وقواه الحية ستقف متفرجة على هذا الاختطاف ، هؤلاء الذين يظنون أنهم عندما يخسرون حضورهم السياسي عند المواطن المصري يمكن أن يعوضوا ذلك بالحضور السياسي عند بعض العواصمالغربية النافذة والمؤثرة ، بمالها وسفاراتها وضغوطها وشبكة علاقاتها ، وأنه يمكنهم تمرير مشروعاتهم رغما عن إرادة المصريين أو بابتزاز صمت الآخرين ، فهؤلاء هم وجه آخر للديكتاتورية ، هم لجنة سياسيات أخرى جديدة مثل لجنة مبارك وأنجاله وعصابته ورجال أعماله ، تتصور أنها تعمل بوصاية على شعب مصر ونيابة عن شعب مصر وأن المصريين غير مؤهلين للاختيار وغير مستحقين لإبداء الرأي ، وأن هذا الوطن هو "عزبة" يفعلون بها ما يشاؤون بدون الحصول على تفويض شعبي من قنوات ديمقراطية سليمة ، والحقيقة أن الشعب المصري الذي أسقط لجنة جمال مبارك سيسقط أي لجنة انتهازية ديكتاتورية جديدة أيا كانت الأسماء . ولأن أمثال هؤلاء يلعبون لعبتهم بالمتاجرة بالثورة ، فسبيلهم الوحيد هو المزايدة ، واصطناع التطرف في المواقف والمطالب والاختيارات ، بل واختراع مطلب جديد كل نهار ، باعتبار أن هذا يلهب حماس قطاع من الشباب أكثر ، ولكن المؤكد أن هذا يفتح بابا آخر من الخطر على الثورة المصرية ، لأنه ينتهي بحرقها قطعا ، فمن أدبيات تاريخ أي ثورة أنك إذا أردت أن تحرقها فلتتطرف في شعاراتها ومطالبها ، بل إن أبناء جيل السبعينات ما زالوا يتذكرون الطريقة "السهلة" لإنهاء أي مظاهرة طلابية ، بأن يركبها من يتطرفون في الهتاف والصريخ والمطالب والعنف فتبدأ في التفتت والاضمحلال ثم تنتهي ، ومصر ستظل بحاجة إلى وهج هذه الثورة لزمن غير قليل ، ربما عدة سنوات مقبلة ، لأن ركام أكثر من نصف قرن من القمع والتهميش والفساد الفردي والمؤسسي وثقافة الخوف والإذلال ، لن تنتهي خلال أشهر قليلة ، فأن يتم حرق الثورة وتبديد طاقاتها قبل أن تنجز رسالتها التاريخية لمصر لا شك أنه سيكون جريمة لا يصح أن نتسامح فيها ، ويتوجب على عقلاء الوطن أن ينبهوا لها مبكرا ، ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم . [email protected]