لا يمكن فهم القرار الليبي بالإفراج مؤخرا عن 84 سجيناً من الأخوان المسلمين ذات الثقل المحدود في المجتمع ، إلا في إطار إدراك أعمق لطبيعة التعامل مع قضية الإصلاح السياسي التي باتت هي التحدي الرئيسي في النظام الجماهيري، والذي ظل حتى سنوات قريبة يمارس العنف ضد أي تيار سياسي داخلي أو خارجي يعارضه أو يفكر بطريقة ليست جماهيرية ! ولئن كانت ليبيا قد أدركت في وقت مبكر أن خطابها إزاء القضايا الخارجية ( أزمة لوكيربي ، العداء مع أمريكا ، ودعم الثورة، ..الخ ) لابد أن ينتقل من الحالة "الثورية" إلى "التكيفية" مع قواعد النظام الدولي ، وخاصة إزاء القوى الرأسمالية العالمية حتى لا تصل إلي حافة الخطر ، فإنها تدرك أيضا أن هذا الخطاب المتمسك بالنظام الجماهيري وقمع وإقصاء كل التيارات السياسية بما فيها الأخوان لم يعد هو الأخر ملائما للمرحلة الحالية في المنطقة العربية ، لاسيما أن الولاياتالمتحدة تطالب باتخاذ إجراءات سياسية انفتاحية. ولهذا السبب فإن التعامل الليبي مع قضية الإصلاح يتسم بالتدريجية والتوازن النسبي الذي لا يذهب بعيدا للاصطدام بالقوى الثورية المتمسكة بالنمط الجماهيري الذي يوفر لها أسباب استمرار قوتها ومصالحها ، في الوقت نفسه يبدي قدرا من المرونة والحماية للتيار الليبرالي الإصلاحي الذي يجسد مطالب الإصلاح في الحياة السياسية الليبية. وتلك المعادلة الصعبة التي تحوي طرفان على قدر كبير من التناقض في مصالحهما ، خلقت بدورها خطابان سياسيان يتم توظيفهما حتى اللحظة الراهنة لصالح النظام الليبي، فالخطاب الثوري لا زال ولو مؤقتا يلعب دورا في تحقيق الحد الأدني من الاستقرار، خاصة أنه يقف وراءه قوى تمسك بالزمام الأمني والنفطي في البلاد : كاللجان الثورية وأجهزة الأمن والاستخبارات ، والمصالح القبلية والنفطية المتشابكة هيكليا مع النظام الليبي. أما الخطاب الأخر الليبرالي الذي يقف وراءه سيف الإسلام نجل القذافي ومثقفون ليبيون وأساتذة جامعات ، وتؤيدهم بعض قوى المعارضة في الخارج ، فهو يلعب دورا مهما في استباق الضغوط الداخلية المطالبة بالحريات السياسية ، فضلا عن مواجهة الضغوط الخارجية ، بإظهار أن هناك تيارا إصلاحيا يلبي بعضا من الطلبات الأمريكية التي لا زال "صوتها منخفضا " ، بسبب طغيان الملفات الخارجية على الداخلية في هذه المرحلة من العلاقات الأمريكية الليبية ، وبالتأكيد فإن ذلك لن يستمر طويلا. ويمكن القول أن هناك عدة عوامل داخلية وخارجية ستدفع المعادلة الليبية في الإصلاح إلى الميل خلال السنوات القادمة لصالح التيار الليبرالي الذي بدأ يتغلغل في الحكومة الليبية ، ويجتذب أنصارا له خاصة من فئة الشباب، بل وبعض رموز المعارضة في الداخل والخارج ومنها: - استعادة ليبيا لعلاقاتها مع القوى الرأسمالية الغربية ، وخاصة الولاياتالمتحدة ، وتوقع تدفق استثمارات من هذه القوى ، سيفرض بالتبعية تغييرات على مجمل السلوك الليبي سواء الاقتصادي أو السياسي للتوافق مع هذه القوى. - ثمة مشكلات هكيلية يتعرض لها النظام الجماهيري ، حيث لم يستطع تحقيق معظم الأهداف المثالية التي أنشيء من أجلها عام 1977 ، فلا زال هناك دورا هامشيا للمؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية في صنع السياسات العامة ، مقارنة بالدور المهيمن للزعيم الليبي واللجان الثورية ، وقوى الأمن والاستخبارات. - هناك مخاوف من أي غياب مفاجئ للزعيم الليبي من الساحة السياسية قد يحدث أزمة مفصلية داخل البلاد ، لاسيما أن النظام الجماهيري لم يبلور بدائل على غرار زعامة القذافي ، تقود النظام في مرحلة ما بعد الجماهيرية، وهو ما يدفع إلى ضرورة بلورة بديل سياسي ومؤسسي يستطيع التكيف مع متطلبات الداخل والخارج. - المشكلات الاقتصادية تطرح أخطارا على شرعية النظام الليبي نفسه وأبرزها زيادة البطالة بنسبة تصل بها الإحصاءات الدولية إلى 33 % ، وهي تمثل قنبلة موقوتة ، لاسيما أنها تتركز في قطاع الجامعيين ، كما تفاقمت مشاكل القطاع العام والفساد والبيروقراطية. - أن المنطقة العربية تمر بحالة من الدفع نحو الإصلاح السياسي ، وهو ما سوف يؤثر بالطبع على تصاعد وتيرة جهود الإصلاح في ليبيا ، ولعل التأثر يبدو حينما أعقب ظهور حركة كفاية في مصر، إعلان حركة ليبية تسمى " خلاص ". مؤشرات اقتصادية إن إدراك ليبيا للعوامل الدافعة للإصلاح سواء في الداخل أو الخارج ، سمح بتدفق مؤشرات اصلاحية لم يتوقع أحد أن تدخل القاموس الجماهيري، ولعل من المهم ملاحظة أن معظم هذه المؤشرات اتخذت في البداية أشكالا اقتصادية ، ثم تطورت لتتجه نحو أبعادا سياسية. فالمراقب للقرارات الاقتصادية الليبية خلال السنوات القليلة الماضية ، يجد أنها تصب في بناء اقتصاد سوق يضرب عمق النموذج المركزي التخطيطي الذي بنيت فلسفته في الكتاب الأخضر على مقولة شركاء لا أجراء ورفض الربح الذي تقوم عليه نظرية السوق الرأسمالية. لقد كان أبرز مؤشر اقتصادي على أن النظام الجماهيري يتم التخلص منه تدريجيا ، هو دعوة الزعيم الليبي نفسه في يونيو2003 أمام المؤتمر الشعبي العام إلى خصخصة القطاع العام ، بما في ذلك قطاع النفط و المصارف. وسبق ذلك بشهرين تعيين الدكتور شكري غانم ذي التوجه الليبرالي أمينا للجنة الشعبية العامة (رئيس وزراء) الذي أعلن عن شروعه في صياغة قوانين جديدة لتوسيع قاعدة الملكية، وتطبيق آلية لخصخصة المؤسسات طرح خلالها أكثر من 375 شركة تملكها الدولة للخصخصة على امتداد خطة طويلة الأمد تمتد حتى سنة 2008، كما شرعت الحكومة بإجراءات تهدف إلى إلغاء الدعم عن السلع الأساسية في بداية نوفمبر 2004. وللدلالة على صدقية هذه التحولات الاقتصادية ، دعا القذافي في مارس 2005 إلى رفع كل القيود التي تقف أمام ذلك ليكون الليبيون احراراً في اختيار النشاط الاقتصادي بحرية تامة ، بل إنه طالب باصدار تسريع يمنع التأميم لخلق مناخ مواتي للاستثمار. ويقينا فإن هذه المؤشرات الاقتصادية التي لم تعبأ بأهم مرتكز اقتصادي للنظام الجماهيري ، تؤكد أن ليبيا تدرك أنه لا يمكن فصل استعادة العلاقات مع القوى الرأسمالية خاصة الولاياتالمتحدة التي تتدفق استثماراتها على البلاد عن بناء بنية اقتصادية ليبرالية لا زالت بعض القوى كاللجان الثورية تهاجمها على الأعلام الموالي لها مبررة ذلك بالخوف من العودة إلى المجتمع الرأسمالي الاستغلالي. ملف الحريات وبالموازاة مع ذلك ، فإن المؤشرات السياسية الإصلاحية التي قادها التيار الليبرالي تركزت بشكل أساسي على ملف الحريات السياسية الذي ظل خطا أحمرا لا يستطيع أحدا التحدث فيه ، غير أن وجود مؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية التي يقودها سيف الإسلام على رأس المطالبين بإثارة هذا الملف ، شكل خرقا لهذا السقف السياسي وأعطاه حصانة من القوى الثورية. ومن أبرز ما شهده ملف الحريات السياسية خلال السنوات القليلة الماضية ما يلي: - إصدار مؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية بيانا في سبتمبر 2003 يدعو لإطلاق سراح المعتقلين في قضية الإخوان المسلمين ، بغرض إعادة إدماجهم والاستفادة منهم في المجتمع ، حيث أنهم لم يمارسوا العنف ولم يدعوا له، كما قامت أيضا في مارس 2004 برفع دعوى لمقاضاة وزير الداخلية الليبي السابق بتهمة إنتهاك حقوق الإنسان في سابقة تعد الأولي من نوعها منذ عام 1969. - إعلان القذافي في إبريل 2004 عن نيته لإلغاء القوانين الاستثنائية ومحاكم الشعب ، وهي محكمة استثنائية لا تتقيد بمعايير المحاكمات العادلة ، إلا أنه لم يتم وضع هذا القرار على أرض الواقع حتى الآن . - سماح ليبيا لمنظمة العفو الدولية بزيارة تفقدية للبلاد في فبراير 2004، والتي أصدرت على أثرها تقريرها السنوي في إبريل من نفس العام ، ثم ردت السلطات الليبية عليه بعد أربعة أشهر. - الانفتاح على المعارضة في الخارج ، حيث صدرت تصريحات تؤكد الترحيب بعودة عناصر المعارضة شرط عدم ممارسة أي أنشطة ضد النظام الليبي ، وبالفعل عاد عدد من المعارضين ، كما لوحظ أن القذافي نفسه وجه دعوة علنية للمنفيين واللاجئين في الخارج للعودة إلى بلدهم ،وفي إطار هذه التطمينات ، تم الإفرج عن سجناء سياسيين في مجموعات متتالية خلال أعوام 2001 ،2002،2003، 2004 ، 2005 ، ثم الافراجات الأخيرة عن الأخوان في عام 2006 إن هذا الاختراق لملف الحريات السياسية ترافق معه تسريبات حول أن ثمة تفكير في إقصاء قيادات باللجان الثورية متهمة بالفساد واستغلال السلطة، في الوقت نفسه صدرت تصريحات من سيف الاسلام حول أن ليبيا مقدمة على إصلاحات سياسية. ورغم أن المؤشرات السياسية تصب لصالح التيار الليبرالي ، إلا أنه لازال هناك حرص من النظام الليبي من عدم المساس بشكل فجائي وحاد باللجان الثورية التي يرى المراقبون أنها العقبة الكئود لأي اصلاح سياسي منتظر ، إذ إن كوادرها تنتشر في معظم المؤسسات الليبية بمنطق " اللجان في كل مكان" ، وهو ما اشتكى منه رئيس الوزراء الحالي نفسه. ويبدو معادلة الإصلاح الليبية ستظل بين الشد الثوري والجذب الاصلاحي ، ما لم يستطع التيار الليبرالي بلورة مؤسسات ديمقراطية بديلة يكون لها رصيدا شعبيا ، وهو أمر تواجهه تحديدات عدة أبرزها: ارتباط التيار الليبرالي بشخص نجل القذافي ، وهو ما يضعفه شعبيا رغم الملامح الانفتاحية لشخصية سيف الاسلام ، فضلا عن أن هذا التيار لم يتعاون جبهويا مع تيارات في الداخل ، أو الخارج التي يؤيد بعضها توجهات سيف الاسلام. (*) باحث وصحفي مصري [email protected]