يعد الدين أهم رابطة سياسية واجتماعية عرفتها الإنسانية على الإطلاق، بل يعد مكونا أساسيا للأمم والدول عبر التاريخ ولا يمكن لأي مجتمع إنساني أن يحيا بدون هذه الرابطة القوية والعروة التي لا تنفصم. ومن ثم فإن الدين قد أثرى حياة البشر وأحاط بها من جميع جوانبها فاسس العقائد والعبادات وأوجد الأخلاق والمعاملات وهذب الأعراف والعادات وعرف طريقه إلى السياسة والاقتصاد والتشريعات ومن ثم فإنه لا يحق لأحد – كائنا من كان – أن يقول إن الدولة ليس لها دين، لأنها لا تصلي ولا تصوم وكأن الدولة هذه كائن في الهواء أو السحاب أو أن الدين يقتصر على الصلاة والصوم وبعض العبادات الأخرى فحسب. نقول: إن الدولة ليست كائنا هوائيا بل هي حقيقة سياسية وظاهرة اجتماعية وجدت مع وجود البشر ورغبتهم في الاجتماع والتقارب وليست الدولة وليدة المجتمعات الحديثة، وهذا التقارب والاجتماع لا يكون إلا بتوافر عناصر وأسباب تعد في ذاتها المكون الرئيسي لحقيقة الدولة والتي يعد الدين من أهمها بل هو أهمها على الإطلاق إضافة إلى اللغة والجنس والأرض وما شابه ذلك من عوامل التقارب والاجتماع. كما أن الدولة في ذاتها لا تقوم إلا بتوافر أركانها وهذه الأركان هي الشعب والإقليم والسلطة السياسية، فالشعب إذا هو العنصر المؤثر والفاعل في قيام الدولة إذ أنه يشمل الحاكم والمحكوم وهذا الشعب له دين ولا شك. كما اعتبر الدين عبر التاريخ مصدرا رسميا وقاعدة أساسية للقانون طالما اعتنى بتنظيم الروابط والأسس الاجتماعية التى يقوم عليها المجتمع وهذا شأن عامة الشرائع السماوية جميعها قد أعتنت اعتناء بالغا بالروابط الاجتماعية لأن الدين فى ذاته بعقيدته وشريعته رابطة اجتماعية فى غاية القوة والمتانة كما أن القائمين على الدعوة إليه ونشره وإبلاغه للناس هم خيرة البشر وأزكاهم وأعلمهم وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم العلماء من بعدهم. فإذا ما وجد قصور أو خلل فى شريعة ما فى عصر من العصور فإن مرد ذلك إلى تحريف أو خلل حدث فيه من جهة أتباعه. وسوف نضرب مثالا لذلك: فالقول بأن الشريعة المسيحية – إن صح القول - لم تعرض لأمور الدنيا إلا بقدر ضئيل لذا فإننا لا نجد للدين أثرا قويا فى القوانين الغربية ....كما يقول البعض. فإننا نرى أن هذا القول لا يحالفه الصواب إذ أنه مما علم قديما وحديثا أن شريعة الإنجيل ليست شريعة مستقلة وإنما هى مكملة لشريعة التوراة ورافعة لبعض أحكامها وقد كان النصارى من أتباع الشريعة المسيحية – ولا يزالون-يؤمنون بذلك وأن كتابهم المقدس يتكون من العهد القديم – التوراة - وهي الشريعة العامة لبنى إسرائيل، والعهد الجديد – الإنجيل – والذى قد احتوى على بعض المعانى والأحكام التى لم توجد فى التوراة ولا تزال التوراة هى الشريعة العامة – الأم- لكل المسحيين بجميع طوائفهم ومذاهبهم ومللهم إلي يومنا هذا، ومن ثم يتضح لنا أن القول بأن الشريعة المسيحية لم تعالج إلا الجوانب الروحانية فقط قول غير سديد إذا أنها لم تكن بمعزل عن سابقتها وإن كانت متممة لشريعة بنى إسرائيل العامة وهي التوراة والتى احتوت على كثير من الأحكام فى العقائد والعبادات والمعاملات والدماء والحدود جاء ذكر جملة منها فى القرآن الكريم. ثم لنا أن نتساءل بماذا كان يحكم عيسى عليه السلام في بني إسرائيل قبل أن يرفع هل كان يحكم بالروحانيات أم كانت هناك حدودا وأحكاما تطبق عليهم؟؟؟ لاشك أنه كانت هناك أحكاما شرعية يتحاكمون إليها مع وجود الجوانب الروحانية الموجودة- أصلا- فى كل شريعة من الشرائع. لكننا نقول إن تحول النصرانية – المسيحية - إلى شريعة روحانيات فقط إنما مردة لتفريط الأتباع وضياع العلم الشرعى فيهم وانتشار الرهبنة والابتعاد عن مجالات الحياة المختلفة الأمر الذى جعل أتباع هذه الملة لا يعرفون إلا بالروحانيات الناتجة عن الجهل بالمسائل الشرعية، أما الشريعة نفسها فهى شريعة تامة إذا تحاكم الناس إليها فسيجدون فيها بغيتهم ومن المبادئ السياسية الهامة التى جاءت فى شرائع بنى إسرائيل اختيار الله عز وجل لهم خيرة الناس يدبرون لهم أمور دينهم ودنياهم قال صلى الله عليه وسلم:"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبى خلفه نبى...." وهذه االشرائع التى شرعت لبنى إسرائيل مع كمالها وتمامها اعتراها التغيير والتحريف وتناولتها الآيدي وأدخلت فيها من كلام البشر حتى أضحت بهذه الكيفية، فلا يمكن الجزم بأنها – تفصيلا¬ – من عند الله اللطيف الخبير. أما شريعة الإسلام الحنيف فهى أكمل هذه الشرائع كلها وأسدها وأتمها وقد تكفل الله بحفظها قال تعالى{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. وقد جاءت الشريعة الإسلامية منظمة لجميع الروابط ومقيمة لها وقد اشترط شراح القانون الدستوري فى الدين كي يكون مصدرا للقانون شرطان: أحدهما: أن يكون الدين قد عرض لتنظيم الروابط الجتماعية. ثانيهما: أن يكون ما جاء به الدين من قواعد قانونية هو ما يطبقه القاضى فعلا باعتباره مأخوذا مباشرا من الدين. ولا شك أن هذان شرطان وإن كانا ينطبقان على عامة الشرائع السماوية إذ أنها أنزلت جميعها- من عند الله - لمصالح البشر إلا أنهما يظهران وبجلاء واضح فى الشريعة الإسلامية. فقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية تنظم جميع الروابط الاجتماعية بل هى التى أقامتها وأسستها. وللقارئ أن يتأمل حال الجزيرة العربية قبل سطوع نور الإسلام عليها وحالها بعد ذلك سيجد كيف أن الشريعة الإسلامية أقامت الروابط والأسس الاجتماعية وعملت على حمايتها كذلك بل وأسست الدولة وأقامت أركانها وعرف للعرب دولة كان الدين الإسلامي هو المكون الأساسي لها. كما أن قواعد الشريعة كانت- وما تزال فى بعض البلاد – هى المصدر الوحيد الذى يستقى منه القضاء أحكامة فى بلاد المسلمين. كما تأثرت قوانين البلاد الإسلامية بشكل أو بآخر بأحكام الشريعة الإسلامية وما تزال بعض البلاد تعد الشريعة الإسلامية هى المصدر الوحيد للقانون كالمملكة العربية السعودية التى استفادت كثيرا من دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب الإصلاحية أو كما يسميها البعض خطاء بالمذهب الوهابى. كما جاء الدستور المصرى فى مادته الثانية ينص على ذلك ويؤكد هذا المعنى فى اهتمام بالغ وعناية كبيرة، فالدولة إذا لها دين لأنها قامت عليه فهو المكون الأساسي لها، الدولة لها دين لآنه نظم حياة أفرادها، الدولة لها دين لأن قواعدها القانونية والدستورية جاء بها الدين. وفى الحقيقة فإننا لو ذهبنا نستقصى كافة القواعد القانونية التى قررتها الشريعة الإسلامية لطال بنا المقام لذا فإننا سوف نتناول المسائل السياسية والدستورية فحسب ولو ذهبنا نفصل هذه المبادئ- كذلك- لما وسعنا المقام ولكننا نسردها سريعا ونحاول إقامة الدليل عليها دون تفصيل كبير إذ قد يكون هذا التفصيل موضع بحث قريب بإذن الله تعالى وللحديث بقية إن شاء الله تعالى. - كلية الشريعة والقانون - جامعة الأزهر