نشرت صحيفة الحياه اللندنية تقريرا عن مصر وعن امكانية نجاح الرئيس عبد الفتاح السيسى فى ادارة الأزمات الطاحنة فى البلاد خصوصا بعد قرار زيادة مدروسة في أسعار المحروقات والوقود والكهرباء، والحديث يتجه إلى إلغاء الدعم تدريجاً خلال سنوات. المشروع لا شك في صوابيته، لأنه سيعكس- مستقبلاً- الصورة الصحيحة لاقتصاد مصر، وهو يذكرنا بالقرار الشجاع للرئيس الراحل محمد أنور السادات في كانون الثاني (يناير) 1977 الذي انتهى باحتجاج شعبي- سماه الناصريون «انتفاضة الخبز» وسماه السادات «انتفاضة الحرامية»- أدى إلى التراجع عن قرار إلغاء الدعم. لم يتخذ السادات قراره بعشوائية. لقد استشف فشل التجربة الاشتراكية في مصر ورأى- قبل نحو أربعة عقود- ما ستؤول إليه الأمور، فاستجاب إلى نصيحة دولية مفادها تغيير هوية الاقتصاد المصري من أجل النهوض. كان يدرك أن التجربة الناصرية قدمت نسخة مشوهة من الاشتراكية، والمؤسف عجزه عن تقديم نسخة ناضجة من الرأسمالية، فانتهى الاقتصاد المصري إلى هجين مشوه من الاشتراكية المشوهة والرأسمالية المشوهة ودين عام يقدر ب2 تريليون جنيه.بحسب الحياه اللندنية مشكلة الاقتصاد المصري الأساسية تتمثل في وجهين، دعم السلع بذريعة الانتصار للفقراء، والتضخم الهائل غير المبرر في موظفي القطاع العام. تشير أكثر التقديرات تحفظاً إلى أن عدد الموظفين الحكوميين يتجاوز ستة ملايين إذا تغاضينا عن المؤسسة الأمنية والعسكرية. فلسفة الدعم هي المنطق المعكوس للتصدق بتعليم الصيد. تصدقت الحكومة بسمكة مرة تلو مرة فأحالت المواطن الى التواكل وتحميل النظام السياسي وزر كل شيء. عزز ذلك التكوين المركزي والديكتاتوري لنظام ثورة يوليو. أما القطاع العام، فمشكلة صعوبة الفصل وانعدام التوازي بين الأجر والإنتاج في ظل سياسة توظيف هائلة- في مراحل سابقة- أدى الى انتهاء القطاع العام عبئاً على الدولة المصرية واستشراء الفساد، وهذا ما يفسر اتجاه نظام مبارك إلى الخصخصة، لكنه هو الآخر قدم تجربة مشوهة نتيجة الجسد المشوه أصلاً. بعض النظام العربي معجب بالتجربة الصينية التي تبدو اقتصاداً رأسمالياً تقوده الدولة الشيوعية (المستبدة)، والحقيقة أن هذا الإعجاب غير منطقي، فمن تحدثوا- قبل سنوات- عن تجاوز الاقتصاد الصيني الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2012 سبحوا في الوهم، فخبراء الاقتصاد يعلمون ان الواجهة البراقة للاقتصاد الصيني غير دقيقة، ومن أوجه زيفها الفرق الشاسع بين تقدير النظام الصيني لنفسه (10 تريليونات دولار) وتقدير البنك الدولي (6 تريليونات دولار). وللخبير الاقتصادي والتر راسل ميد دراسة جيدة في هذا الموضوع قبل سنوات وجيزة، أضيف لها تقرير مجلة «العربي» «عشر حقائق عن الاقتصاد الصيني». الاعجاب بالتجربة الصينية مرده جثوم الحكم الشمولي دهراً طويلاً على رقاب الناس والذي أدى إلى «التشبث بمعتقدات الدور الشمولي البائس للحكومة في شؤون الاقتصاد وشؤون الناس وحرياتهم، والاستحواذ الجائر على أموالهم، مما أدى إلى ابتكار الحجج المضللة والمعضدة لأهمية دور الحكومة في الاقتصاد» كما يقول أحمد الوزان. في بداية عهد حسني مبارك- أو أواسطه - اجتمع الرئيس بالمفكر المصري والخبير الاقتصادي سعيد النجار. استمع إلى رؤية النجار الاقتصادية وقبلها ثم عرض عليه منصباً تنفيذياً رفيعاً، استدرك النجار قائلاً انه يقبل المنصب شريطة السير في الإصلاح السياسي، رد الرئيس المصري بأن الوقت غير مناسب، فاعتذر المفكر المصري وانصرف متمسكاً برؤيته: «إذا أمعنا النظر في نظامنا السياسي نجد أنه ما زال يحمل بصمات النظام الشمولي، وهذا واضح كل الوضوح في كل مواد الدستور التي تنص على ان نظامنا الاقتصادي يقوم على الاشتراكية، وأن القطاع العام يقود التنمية، وأن الشعب- ومعناه في هذا السياق هو الدولة – يسيطر على وسائل الإنتاج، وان يخصص نصف مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين، وغير ذلك من المفاهيم المستمدة من الأنظمة الاشتراكية الشمولية. وفوق هذا تحتكر الدولة وسائل الإعلام، وهذه كلها من سمات النظام السلطوي الذي يفتقد أبسط متعلقات الديموقراطية. ومن الواضح تعارض استمرار الشمولية في نظامنا السياسي مع عملية الإصلاح الاقتصادي بما ينطوي من الاتجاه نحو الاقتصاد الحر وتوزيع السلطة الاقتصادية بعيداً من يد الدولة، ومن هنا كانت دعوتنا إلى وجوب سير الإصلاح السياسي يداً بيد مع الإصلاح الاقتصادي بحيث تكتمل مقومات الديموقراطية ومقومات الاقتصاد الحر». من دون هذه الرؤية الثاقبة انحصرت «إصلاحات» الحاكم وتغييراته- من بعد ثورة يوليو إلى ثورتي يناير ويونيو- في خانة الشكل. نعود إلى قرارات السيسي. المتوقع من الرئيس المنتخب إيمانه بأن الإصلاح لا يسير بساق واحدة، وأن هذا الإصلاح يجب أن يكون جذرياً. في حملته الانتخابية وفق السيسي في تصريحه «رفع الدعم يستدعي تحسين أحوال المواطن قبله»، لكنه أثار التحفظ حين لمح إلى معاداة الخصخصة استناداً إلى تجربة مبارك. يجب أن لا تقف التجارب المشوهة السابقة عائقاً في وجه التقدم إلى الأمام. يقول الوزان «ان ترهل الحكومة وتفشي البيروقراطيات وممارسات السلوك الشائن والفاسد في سوء تخصيص الموارد المتاحة، أدى إلى تدهور الاقتصاد وترسيخ التشوهات الهيكلية والتي تركت اقسى الآثار الاجتماعية من بطالة متسعة متنوعة ومن تضخم جامح ومن فقر مدقع وإهمال لحق الناس بضمانات الحياة التقاعدية والصحية، وآل الأمر الى ان يكون الفشل في انجاز تلك الأهداف الموعودة هو ما افقد الحكومات المترهلة شرعية وجودها ودورها المزعوم في تحسين حياة الناس». المتوقع من (السيسي) الإيمان بالدولة الرشيقة كمدخل وأولوية للاصلاح الجذري، والمعنى تحقيق «مفهوم (شعب اكبر وحكومة اصغر)، أي دور حكومي صغير بالحجم كبير وكفوء بالانجاز، ودور واسع للقطاع الخاص الذي صار يمثل سواد الناس». يستدعي هذا المفهوم إعادة هيكلة القطاع العام في مصر وفق مبادئ: لا وظيفة إلا لحاجة ولا دخل إلا بإنتاج، فأي موظف ليس له عمل أو لا يقوم بعمله كما ينبغي فمصيره الفصل، وأي موظف يقصر في أدائه أو يؤثر بالسلب على الإنتاج فمصيره الخصم. في أقسى التقديرات تحفظاً، الحكومة المصرية مطالبة بالاستغناء عن مليون موظف على الأقل- إذا تناسينا ضرورة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية وهو تجاهل في غير محله- وإعادة تأهيل البقية وتوزيعهم، والأهم من كل ذلك الإيمان باللامركزية الإدارية وتحرير الاقتصاد من السلطان المركزي للدولة- التي ستتولى دور التنظيم وإدارة تضارب المصالح الفردية لا القيادة والتوجيه- من أجل تنويع الموارد وتحريكها والاقتراب من الدولة الحديثة. هذه القرارات ستدعم مشروع السيسي لإلغاء الدعم الذي يجب أن يكون متأنياً وواثقاً ومتدرجاً لأنه سيرفع تكاليف المعيشة ككل، كما انها ستنعكس ايجابياً على الاقتصاد المصري والدولة المصرية والدخل القومي، وستساهم في تكوين سليم للبنى التحتية الحكومية كرحم صحي يحفظ التجارب الوليدة من التشوه. وفق تقدير اقتصادي، فإن الدولة تدعم بما مقداره 200 بليون جنيه، ويأكل الفساد من موازنتها نحو نفس المبلغ، وكأن «استثمار» مكافحة الفساد الذي أسسه حكيم الدولة المصرية (كمال الجنزوري) جدير بالاهتمام والتطبيق الجدي والفوري. يرتبط مفهوم الحكومة الرشيقة عضوياً بمفهوم الديموقراطية، إدارة الأكثرية- وليس حكمها أو تسلطها- في ظل ضمان حق المعارضة واحترام المبادرة الفردية وصون الحريات الخاصة والعامة. أي أن مصر في أشد الحاجة للتبرؤ من نظامي يوليو و «الإخوان» وتبني قيم ثورتي يناير ويونيو بالقطيعة مع الفساد والدولة الريعية المترهلة والاستبداد في صورتيه الدينية والأمنية تكاملاً مع مكافحة الإرهاب. تحقيق هذه القيم مرتبط بإدراك الرئيس المنتخب عجز أي أحد عن حكم مصر منفرداً- وفق رأي الكاتب محمد صلاح- وبالتالي ضرورة دعم الأحزاب وتعزيز المعارضة المدنية الموالية للنظام وللوطن والمختلفة مع الحكومة لإثراء الحياة السياسية، وإدراك انتقالية المرحلة كفاصل تصحيحي بين الاستبداد الديني والأمني وبين الدولة الجديدة، ومن المهم- أيضاً- الاشارة إلى أن عودة مصر الى محور الاعتدال العربي، وهو محور المواجهة مع الإسلاموية والمشاريع الغريبة (الإيرانية والتركية) ومحور الموازنة الذي يعزز فرص السلام في وجه الصلف الإسرائيلي، ضمانة حيوية لعودة مصر اقتصادياً وسياسياً. مصر في حاجة إلى خطوة رمزية تتمثل في اعتماد يوم 25 يناير عيداً وطنياً- بدلاً من 23 يوليو- ونقل عيد الشرطة إلى 30 يونيو لتحقيق القطيعة مع الأنظمة السابقة وتذكير الشرطة دائماً بخدمة الوطن لا النظام. إن المركز الجغرافي لمصر كفيل بتعميم تجربتها الإيجابية المأمولة على العالم العربي ككل، وهذا سر الاهتمام بها وعشقها خارج المحيط المصري. بعد انتصار الدستور المصري الجديد لبعض رؤاه، آن لمصر أن تنصف مفكرها الراحل سعيد النجار- مؤلف (تجديد النظام الاقتصادي والسياسي في مصر) و (نحو استراتيجية قومية للإصلاح الاقتصادي) ومؤسس جمعية (النداء الجديد)– بالانتصار لرؤاه الأخرى قانوناً مع مراعاة المتغيرات، فالرجل طرح منذ نصف قرن رؤيته الشاملة للإصلاح اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً في محاضراته وكتاباته، يكفي انه صاحب مقولة «الاشتراكية والديكتاتورية صنوان لا يفترقان، فاحتكار السلطة الاقتصادية لا بد أن يقترن باحتكار السلطة السياسية»... قال هذا في ذروة الأحادية الناصرية.