كتب:هاني عسل: من الظلم القول إن الشيوعية الصينية هي التي أحرزت هذا التقدم الاقتصادي الهائل في الصين وجعلتها تحتل المرتبة الثانية عالميا من حيث قوة اقتصادها بعد الولاياتالمتحدة ومن الغبن أيضا نسبة الفضل في هذا التطور إلي الرأسمالية نفسها بمبادئها وأسسها التي عرفها العالم الغربي والعالم أجمع. ولها تطبيقات عديدة متنوعة في أكثر من دولة أخري محققة نجاحات متفاوتة هنا وهناك. ولكن السبب الحقيقي وراء هذا النجاح هو أسلوب التطبيق المحلي للفكر الرأسمالي في الصين, أي انتهاج الرأسمالية وفقا لاعتبارات الظروف المحلية الخاصة بالدولة والمجتمع, لدرجة أنه يمكن القول كما سيتضح من هذا التقرير أن الصينيين أنفسهم لم يشعروا باقتحام المباديء الرأسمالية إلي حياتهم إلا بعد أن بدأت تؤتي ثمارها في السنوات العشر الأخيرة فقط, بينما البداية الفعلية لها كانت قبل ذلك بسنوات طويلة. كما يبدي العالم الغربي دهشة من كيفية تحقيق الصين لهذا القدر من التقدم الاقتصادي بدون أن تشهد الحياة السياسية تقدما موازيا, بينما قدمت الصين مثالا حيا يستحق التأمل علي أن التقدم الاقتصادي علي الطريقة الرأسمالية ليست له علاقة بإصلاح النظام السياسي ووجود حياة ديمقراطية وحريات سياسية كما يعرفها الغرب الليبرالي, وهذا لغز حقيقي, خاصة إذا علمنا أن من طبق الإصلاح الاقتصادي وحقق هذه النهضة هم أنفسهم قادة الحزب الشيوعي الصيني, أي أبناء النظام. السر وراء نجاح الصين الشيوعية في تبني الفكر الرأسمالي وتحقيق نجاحات كبيرة من ورائه يشهد لها العالم كله هو أن الصين لم تتبع طريقة الصدمة الكهربائية في إحداث هذا التحول, وإنما سارت ببطء شديد وثقة متناهية, أو كما يقال في الإنجليزيةSlowlyButSurely, وهو ما مكنها من تحقيق هذه المعجزة الاقتصادية. تعديل الدستور الصيني عام2000 كان هو البداية الفعلية لتحول الاقتصاد الصيني من الفكر الاشتراكي التقليدي إلي الفكر الرأسمالي وتطبيق اقتصاد السوق الحر. صحيح أن بوادر هذا التوجه بدأت في الظهور في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي, والبعض يرجعها إلي منتصف السبعينيات, ولكن كل هذا ظل مجرد تغييرا بالكلام, وفي السر, بهدف منع اهتزاز ثقة الشعب في النظام الذي اعتاد عليه وآمن به بقوة. بعد رحيل ماو تسي تونج بمبادئه الاشتراكية العتيدة التي شهدت سيطرة الدولة علي مقدرات الحياة اليومية للمواطنين بصورة حادة, جاء دينج تشياو بينج خلفا له, وجاء من بعده آخرون ركزوا علي التحول التدريجي نحو اقتصاديات السوق وفقا للظروف الداخلية, وشاهد الصينيون بأعينهم كيف تحسنت مستوياتهم المعيشية, بل كيف جنبهم قادتها بفضل هذه الأفكار الجديدة التعرض لنفس ما تعرض له نظراؤهم الموظفون لدي الدولة في الدول الشيوعية الأخري من مآس, حيث انهارت هذه الأنظمة الواحدة تلو الأخري اجتماعيا قبل أن تنهار سياسيا, بما فيها الاتحاد السوفييتي نفسه. مع بداية عام2000 كان الدستور قد تغير علي أكثر من مرحلة, بحيث أصبحت الصين عبارة عن دولة اشتراكية ولكن تسودها المباديء الرأسمالية, فظهرت نظريات أطلق عليها اسم اقتصاد السوق الاشتراكي والاشتراكية بالملامح الصينية, وحماية الملكية الخاصة ومساواتها بالملكية العامة للدولة التي كانت أساس النظام الاشتراكي علي مدي عقود طويلة. وكانت أبرز هذه التعديلات إدخال البنود الثلاثة التي تدعو أولا الحزب الشيوعي الصيني إلي انتهاج مباديء التطور من أجل تحقيق المصلحة العامة لأغلبية الشعب الصيني, بما يعني رجال الأعمال المنتجون, وتدعوه ثانيا إلي تبني كافة الأفكار الجديدة في السياسة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا وليس الفكر الماركسي والكونفوشيوسي وحده, مما يعني صراحة الاعتراف بمباديء اقتصاد السوق, وتطالبه ثالثا بأن يحرص علي تمثيل كافة أطياف المجتمع الصيني وليس الطبقة العاملة وحدها, بما في ذلك رجال الأعمال الجدد, والذين كانوا يعملون في السنوات الأخيرة قبل هذه التعديلات علي استحياء, وقبل ذلك كان مجرد وجودهم من المحرمات. كانت مباديء هذا التحول تحرير الملكية ولا مركزية الاقتصاد ورأس المال وزيادة سلطات الإدارة الذاتية لشركات القطاع العام وتأسيس نظام بنكي متنوع يعتمد علي جذب الاستثمارات الخارجية, بينما حدثت عملية تحرير الأسعار بشكل تدريجي وناجح للغاية. وشهدت تلك الفترة قفزات كبيرة في أداء القطاع الخاص والعام أيضا وزاد حجم الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الصيني لتصل إلي108 مليارات دولار في عام.2008 وفي واقع الأمر, مرت سنوات علي هذا التحول في الصين ولم يحدث أن تم تسجيل واقعة فقدان او مصادرة ممتلكات من أجنبي, ولم يضار رجل أعمال بسبب أنشطته الاقتصادية الخاصة. بل إن امتلاك رأس المال الخاص للأراضي في الصين جاء في كثير من الأحيان علي حساب ملاكها الأصليين ممن لم يستطيعوا الدخول في منافسة متكافئة مع رأس المال الخاص للإبقاء علي هذه الممتلكات في العصر الجديد ذي الفكر الجديد. وباتت الأرقام خير تعبير عن سلامة القرارات التي اتخذها القادة الصينيون في التوجه التدريجي نحو الاقتصاد الحر, وعلي الطريقة الصينية التي تعني بالظروف الداخلية وعدم الاندفاع وراء التقليد الأعمي للصدمات الرأسمالية, وكانت النتيجة أن أصبحت الدولة ذات ناتج إجمالي يبلغ7,8 تريليون دولار حسب إحصائيات عام2009, بينما بلغ معدل النمو7,8%, ومتوسط نصيب الفرد في الناتج الإجمالي6600 دولار سنويا, ومعدل البطالة3,4% فقط وهو ما يقل بكثير من معدلات البطالة في الدول الرأسمالية العتيدة, ونسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر لا تتعدي8,2%. وحاليا تشدد الحكومة علي أهمية زيادة الإنفاق الاستهلاكي من أجل تنشيط الاقتصاد الوطني وهو ما يتضح في صورة زيادة في أعداد السائحين الصينيين الأثرياء الذين يجوبون أنحاء العالم, ويقدمون بشكل غير مباشر خير دليل ملموس علي الرأسمالية علي الطريقة الصينية.