كان من الممكن أن نحسب المعركة التجارية الحالية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي، كواحدة من النزاعات والحروب التجارية السافرة والمستترة في عصر العولمة التجارية، خاصة بعد أن اكتشفت المفوضية الاقتصادية الأوروبية في بروكسل أن هناك سياسة إغراق صيني للسوق الأوروبي في المنسوجات. وحذرت المفوضية الأوروبية من أن هذه السياسة تهدد الاقتصاد الأوروبي وتزيد من نسب البطالة المرتفعة بالفعل، كما أعلنت عزمها علي اتخاذ بعض الإجراءات ضد سياسة الإغراق الصينية بما في ذلك اللجوء إلي منظمة التجارة الدولية. قد يكون كل ذلك مفهوماً ومبرراً ومقبولاً وفقاً لقواعد وسياسات وتطبيقات العولمة الحالية، بما في ذلك فتح الأسواق بلا حدود والمنافسة الحرة علي الأسواق بلا قيود، وهو المبدأ الذي أرسته ودعمته منظمة التجارة الدولية منذ إنشائها وولادتها سنة 1994 برعاية ومباركة الدول الصناعية الكبري خاصة الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان. ولم تلتفت هذه الدول الصناعية والمتقدمة لشكوي دول العالم الثالث من أن هذه السياسات يمكن أن تلحق أضراراً هائلة بالاقتصاديات الناشئة لهذه البلدان واجهاض أية محاولات جادة للتنمية والتطور في مواجهة منافسة شرسة وغير عادلة. ولكن وبعد عشر سنوات من إنشاء منظمة التجارة الدولية وتطبيقات العولمة التجارية، بدأ يبرز اتجاه قوي وجديد في أوروبا وفي دولها الكبيرة بشكل خاص ألمانيا وفرنسا يشكو من سياسات الانفتاح الحر علي الأسواق والذي وصفه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في خطاب أخير له بالليبرالية الاقتصادية المتجاوزة للحدود بينما اطلق عليه فرانز مونتفيرنج رئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم في ألمانيا بالجشع غير المحدود من جانب الرأسمالية العالمية سعياً وراء الربح علي حساب كل القيم. بل أن جيرهارد شرويدر مستشار ألمانياالغربية والذي يحكم ألمانيا خلال السنوات الثماني الماضية يشن حملة علي ما أسماه بشرور النظام الليبرالي الاقتصادي الجديد، ويذهب المستشار شرويدر الذي يعاني اقتصاد بلاده (ثالث اقتصاد عالمي) من ارتفاع في نسب البطالة وانخفاض في مستوي الخدمات الاجتماعية إلي الحديث في خطاب له بمناسبة عيد العمال عن رأس المال الجشع الذي لا وجه له والذي انتشر علي السطح الاقتصادي الألماني والعالمي مثل ديدان الآفات الضارة علي حد تعبير كارل ماركس. المدهش في الأمر أن القيادات الأوروبية الغربية تحاول إعادة اكتشاف مقولات كارل ماركس حول الرأسمالية الجشعة، وفساد الليبرالية الاقتصادية المطلقة، ليس فقط في مواجهة الولاياتالمتحدة، بل والأهم من ذلك في مواجهة الصين، البلد الذي يعترف بل ويفخر حتي اليوم علي الأقل من الناحية الرسمية بأنه يطبق سياسات اشتراكية نابعة من مفاهيم كارل ماركس. فالصين الشيوعية أو الماركسية التي فاجأت العالم في العقدين الأخيرين بانفتاح اقتصادي وتجاري واسع علي الأسواق العالمية، وتحقيق معدلات في النمو الاقتصادي غير عادية وغير مسبوقة (من 8 إلي 12%) ومضاعفة الدخل القومي ثلاث مرات، لا تملك فقط أضخم سوق موحد (3.1 مليار) بل وتملك حالياً أكبر فائض تجاري مع دول صناعية كبري مثل الولاياتالمتحدة (48 مليار دولار) واليابان وألمانيا وفرنسا. الغريب أن القيادات الأوروبية التي تحاول إعادة اكتشاف ماركس ومقولاته بالنسبة للرأسمالية وموبقاتها في ظل تطبيقات العولمة الحالية وسياسة الأسواق المفتوحة، ترفع هذه التفسيرات في مواجهة دولة مثل الصين يحكمها الحزب الشيوعي وتسعي إلي هزيمة الرأسمالية العالمية!! ولكن الصين، كانت سباقة إلي تفسير سياسة الانفتاح علي أسس ماركسية، ففي مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني الثلاثة التي عقدت في العقد الماضي وكان آخرها المؤتمر المهم للحزب في العام الماضي، قدم الحزب تفسيرات وتبريرات نظرية بل ومقولات ومفاهيم ماركس نفسه حول السوق والانفتاح الاقتصادي. وقراءة لبيانات المؤتمرات الأخيرة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم تؤكد أن السوق هو مصطلح اقتصادي موضوعي مثل مقومات الإنتاج وسياسات الأسعار والأجور وفائض القيمة، وبالتالي فليس هناك سوق رأسمالي وسوق اشتراكي، ولكن هناك استثمار جيد لسياسات الأسواق المفتوحة لصالح جماهير المنتجين والعاملين مثلما يجري في الصين، كما أن هناك من الناحية الأخري استغلالاً مكثفاً للأسواق لصالح حفنة من الرأسماليين الكبار والشركات متعددة الجنسيات مثلما يجري في البلدان الأخري. ويجري علي فكرة الأسواق مثلما يجري علي نظرية فائض القيمة، فالصين تقوم بتوزيع الأرباح (فائض القيمة) علي المنتجين والعاملين الحقيقيين في المجتمع، بينما يستأثر بفائض القيمة مجموعة من كبار الرأسماليين في الدول غير الاشتراكية.