فى أوائل عام 1986 كان الراحل المشير محمد أبو غزالة، وزير الدفاع فى ذلك الوقت، صاحب حضور قوى، و" كاريزما" دفعت البعض أن يرشحه – من خلال الإشاعات- بأن يكون هو نائب الرئيس المنتظر، وإلى درجة أن كتبت عنه مقالا بعنوان ( النجم الساطع )، بمناسبة ما كان يجرى، فى حينها، من مناورات عسكرية مشتركة بين مصر والولايات المتحدة، اتخذت عنوان ( النجم الساطع )، ولم نكن نعى – فى ذلك الوقت – أن ما رأيناه مبررا لترشيح الرجل، هو نفسه ما دفع هذا الاحتمال بعيدا، بحكم طبيعة مبارك، الذى رأيناه يحرص، أشد ما يكون الحرص، على إبعاد أى شخصية تبدو عليها ملامح التفوق والبروز والشهرة، ليبقى هو وحيدا، وهو ما دفع بعض الناس أن يتساءل باستنكار، عندما كنا نروج بضرورة تغيير الرئيس: ومن فى مصر يمكن أن يحل محله؟!! المهم، حدث فى هذه الفترة أن أجرت مجلة المصور حوارا مهما مع أبو غزالة، فإذا بى أكتب مقالا لجريدة الأهالى التى كانت فى هذه الفترة أيضا أقوى جريدة معارضة، حمل عنوان ( عفوا سيادة المشير)، على غرار مقال سبق أن كتبته على صفحات الجريدة نفسها قبل ذلك بعامين بعنوان ( عفوا..سيادة الرئيس ) أواخر عام 1984. حمل المقال مضمونا يدور حول امتيازات متعددة رأيتها، تستأثر بها القوات المسلحة، وكان دافعى فى هذا، ما لمسته من معاناة أحد الحاصلين فى تربية عين شمس على الدكتوراه، وعجزه الشديد عن أن يجد سكنا، وهو بسبيل الزواج، فى الوقت الذى رأيت فيه بعض جيرانى من الضباط، بعد أن سكنوا مثلنا، حائرين، بالنسبة لشقق أخرى خصصتها لهم المؤسسة العسكرية..إلى غير هذا وذاك من ظواهر. روى الأستاذ حسين عبد الرازق، الذى كان رئيس تحرير الأهالى فى ذلك الوقت، فى كتاب ضمنه تجربته فى رئاسة تحرير الجريدة بعنوان ( جريدة تحت الحصار) أنهم، عندما تسلموا المقال حاروا : هل يجازفوا بنشره؟ حيث لم يكن أحد من قبل قد نشر مثل هذا الرأى، واستمرار النظر إلى المؤسسة العسكرية باعتبارها حرما لا ينبغى أن يمسه أحد؟ وبعد مداولات داخل الجريدة والحزب، وعرض الأمر على خالد محيى الدين، زعيم الحزب فى ذلك الوقت، والفارس العظيم من فرسان يوليو، جازفوا بنشره – وتلاه عدد آخر من المقالات بعد ذلك، منى، على المنوال نفسه-وإذا بعاصفة من الهجوم على كاتب هذه السطور، فضلا عن مشاركة كتاب آخرين، فى مواقع متعددة. واليوم، وبعد مرور ربع قرن على هذه السلسلة من المقالات الناقدة للمؤسسة العسكرية، أجد نفسى، وأنا أراجع موقفى، مدين باعتذار لهذا النقد الذى كان قاسيا، وأنا أنظر إلى ما حولى فى المنطقة، فى عملية تقييم سريعة لدور القوات المسلحة، فى مصر، مقارنة بما شهدته – وما زالت - بعض دول المنطقة، وخاصة العربية. فقد كان الملك فاروق، وهو يخاطب الجيش، يحرص على أن يستهل الخطاب بعبارة " جيشى العظيم "، أو أى صفة أخرى، المهم كلمة " جيشى "، حتى لقد وقر فى أذهاننا أن ولاء الجيش هو للملك أولا وقبل كل شئ، ثم إذا باختبار أولى، تشهده انتخابات نادى الضباط، عام 1951 يسفر عن سقوط مرشحى الملك، وفوز مرشحى الضباط الأحرار.. ثم إذا بضباط الجيش أنفسهم يقومون بهذه الثورة الكبرى،عام 1952، التى، مهما اختلفنا فى تقييمها، فهى قد أحدثت تغييرات هيكلية فى المجتمع المصرى، بل فى سائر دول المنطقة، وأكثر من هذا ما كان لها من تأثير فى حركات التحرير والثورة فى بلدان آسيوية وإفريقية، إلى الدرجة التى جعلت من عبد الناصر عدوا أساسيا لقوى الهيمنة العالمية، فكان حرصها – وهى تقف من وراء إسرائيل على كسر شوكته، واغتياله معنويا. بل، لابد أن نذهب إلى ما هو أبعد زمنيا من ذلك، عندما اشتدت وطأة الاستبداد الحاكم، زمن الخديوى توفيق، فإذا بضباط الجيش المصرى يتحركون لقيادة خطوات أساسية لإقامة مجلس نواب حقيقى، ورفع الغبن عن أفراد الجيش من المصريين، أصحاب الوطن الحقيقيين، حيث كانت الامتيازات الأساسية لضباط، لم يكونوا من أصول مصرية، ومعاملة المصريين على العكس من ذلك بقدر من الإذلال، وكان ما كان مما سمى بالمظاهرة العسكرية التى قادها عرابى، مرددا للخديوى، المقولة نفسها التى سبق أن قالها الخليفة العظيم عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ولما استعان الخديوى الخائن بقوة أجنبية(الإنجليز)، كانت المعركة غير المتكافئة أبدا بين جيش حُرم من الأسلحة والتدريب والتنظيم، ليفرُغ - كما أراده لهم حكامه فى ذلك الوقت- " للتشريفات "، والاستعراضات، وينتهى الأمر باحتلال أجنبى، استمر ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، وحاولوا تشويه الجهد العسكرى بأن أطلقوا- فى كتب دراسية – وصف " الهوجة " على ثورة الجيش، ووصفوا عرابى " بالعاصى "!! إنها سلسلة طويلة حقا من المواقف الوطنية للجيش المصرى، تحتاج إلى صفحات كثيرة، مثل مشاركة بعض الضباط للفدائيين المصريين الذين حاولوا أن يساندوا الفلسطينيين عام 1948، وقبل مشاركة الدولة رسميا، وكذلك موقف بعض آخر من تعضيد حركة الفدائيين 1951 عقب إلغاء معاهدة 1936فى عهد حكومة النحاس الوفدية. وعندما أنظر حولى، على الحدود الغربية، حيث ليبيا، وأجد حاكما مجنونا يسلط قواته المسلحة لضرب شعب يطالب بحقه فى أن يختار من يحكمه، بعد أكثر من أربعين عاما من تسيد شخص واحد، وبتوجه واحد، يحكم هو وأولاده، وكأن ليبيا بغير شعب....مجرد عزبة للنهب والسرقة والتجريف..حتى جرّف البلاد فكريا وثقافيا ودينيا ومجتمعيا، وإذا بالأموال الطائلة تنفق فى غير بناء مجتمع ناهض، وإنما على مغامرات فاشلة خارجية، بحجة دعم حركات الثورة، لكنها كانت تصرفات زعيم عصابة وليس رئيس دولة. وأنظر إلى الجنوب، إلى هذا الشعب النادر، الشعب اليمنى، الذى خالطت كثيرين من أفراده، وعشت عدة شهور فيه من قبل، يتقد ذكاء وحيوية ونشاطا، ينفرد بحكمه " جندى " – دون قصد السخرية من الجنود – لم يتأهل ثقافيا وعسكريا وعلميا، وتزيد فترة حكمه عن اثنين وثلاين عاما، دون أن يشبع سلطة ونفوذا وجاها ومالا ونهبا..ويسلط – أحيانا – بعض جنوده لقتل أفراد من الشعب اليمنى العظيم.. وماذا نقول عن سوريا، التى أنظر إليها دائما وكأنها الوجه الآخر للعملة، مع مصر..ففى الوقت الذى اندثرت فيه ظاهرة الأحزاب الفاشستية المستبدة، يستمر حزب البعث فى القبض بيد من حديد على مقادير الأمور، ويسلط أيضا بعض جنوده لقتل أبناء وطنه. صحيح أن المرء لابد أن يذكر للنظام الحاكم فى سوريا مساندته للمقاومة الفلسطينية، بعد أن لم يجد زعماؤها ملاذا لهم فى أية دولة عربية إلا سوريا، والأهم من ذلك، أن سوريا هى الظهير والمعبر الأساسى لتزويد المقاومة اللبنانية بالسلاح...لكن، لا يمكن أن يبرر هذا، سد الآذان عن صوت آلاف الجماهير التى تريد اختيار من يحكمها! لم أتعود المديح، فالغالب على الكثرة من كتاباتى هو النزعة الناقدة، وخاصة من حيث كشف السلبيات والعورات السياسية والمجتمعية، لكننى، إزاء كل هذا الذى ذكرت، أقف يملؤنى الزهو والإعجاب، بهذا الموقف النبيل للمؤسسة العسكرية المصرية، والتى كان لها دورها الفعال فى تأمين نجاح الثورة الشعبية. وإذا كنت، فى مقال سابق، أبرزت احتجاجى على ما قاله أحد أعضاء المجلس العسكرى، مما اعتبرته" معايرة " لنا لوقوف جيشنا بجوار الثورة، على عكس الجيوش المجاورة ، فما زلت أرى أن هذه كانت " سقطة "، حتى ولو عبرت عن حقيقة، فصاحب الحق فى الإشادة بفضل المؤسسة العسكرية، هو نحن ..نحن الذين يحق لنا، بل ويجب، أن نسجل آيات التقدير والامتنان على ما فعله الجيش لنا، وهو بفعله هذا يفيد نفسه كذلك، إذ يجد ملايين المصريين تحيط به من كل مكان، وتحله فى قلوبها، ويسطر المؤرخون سطورا من ذهب عن هذا الجيش العظيم، طوال ما عرف الطريق الحقيقى والصحيح له..أن يكون جيشا للمصريين، ومن ثم يكون المصريون له حاضنا وعاشقين...