شرعت الجماعة الإسلامية في تسطير صفحة جديدة من صفحات تاريخها من خلال ما تجريه الآن من انتخابات على مستوى القمة والقاعدة لاختيار مسئوليها في أنحاء الجمهورية وتلك خطوة نحسبها مباركة وموفقة بإذن الله تعالى غير أن الأمر – على حد علمي – لا ينبغي أن يتوقف عند تطوير الفكر التنظيمي للجماعة فحسب بل يجب عليها أن تعيد النظر في كل ما يتعلق بمسلكها على المستويات كافة إذا أرادت قفزة نوعية تحدث لها فارقا في عالم الأفكار والأيدلوجيات وتجاري ما حدث على الساحة الفكرية والحركية من تطورات متلاحقة ولعل ما يجب أن يتوجه إليه التجديد ويعتريه التطوير مسألة المنهجية العلمية لدى الجماعة والتي يقصد بها الهوية العلمية بحيث يكون لها منهج علمي متدرج في أصول الدين يتناول علوم الآلة والمتون الفقهية وأصول الفقه والحديث والتفسير تخرج من خلاله أجيالا من العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة وفروعها وإذا كان يغتفر للجماعة قبل ذلك إهمالها هذا الجانب بسبب (الملاحقات) الأمنية في مرحلة المواجهة ثم (التكتيفات) الأمنية بعد المبادرة فلا اعتقد أن ثمة عذرا للجماعة يعفيها من الاعتناء بالجانب العلمي بعد ما حدث من فتح عظيم ونصر مبين للإسلاميين جميعا. إن المتابع لمستوى الجماعة العلمي يعلم أنه لم يكن بحجمها الدعوي أو الفكري ويجد أن مدرستها العلمية لم تكن بالقوة التي يخرج منها علماء او طلاب متخصصون في علوم الشريعة وفروعها ونستطيع القول أنها كانت ضعيفة بدرجة كبيرة وأقرب إلى (المطالعة العلمية) منها إلى (التعليم الأصيل) الذي يعنى بحفظ المتون وتعلم الأصول وقراءة الشروح والحواشي والمختصرات والمطولات ولم تقدم الجماعة الإسلامية الى الساحة العلمية من أبنائها ممن يشار إليهم بالبنان أو يعرفون برسوخ العلم سوى الشيخ عبد الآخر حماد ثم يأتي بعده الشيخ أسامة حافظ أما بقية أبنائها من الجيل الثاني ممن عرف عنهم التأثير الدعوي فكانوا (حفظة أبحاث) ولم يكونوا (طلبة علم) وإلا ما وقعت الجماعة في أخطاء واضحة كانت ظاهرة للمتابع عن بعد كما لم يكن للجماعة مفت واضح وعالم معروف أما الشيخ عمر عبد الرحمن – فك الله أسره – فلم يكن سوى رمز عام ولم يكن له دخل في تفاصيل العمل الحركي للجماعة. ولا ينكر أحد أن فكر الجماعة الأول والذي بنيت عليه اجتهاداتها التي قادتها الى عمليات العنف سابقا كان مصدره مجموعة أبحاث تخرج من (الليمان) تحمل مجموعة رؤى واجتهادات فكرية وحركية معينة على أساس (منهجية الانتقاء) التي تتمحور حول تأصيل جزئية معينة مقررة سلفا على مستوى الفكرة العامة والقناعة بهدف تأصيلها وتعزيزها والإيهام بشرعيتها ثم جعلها مفصلا كبيرا من المفاصل الفكرية للجماعة كجزئية شرعية استهداف مسئولي الدولة من خلال تأليف بحث (شرعية الاغتيالات) و تقرير جواز قتل رجال الجيش والشرطة من خلال بحث (قتال الطائفة الممتنعة عن تحكيم الشريعة) وغير ذلك من الأبحاث العلمية التي صنفها قادة الجماعة الإسلامية لرسم خطوط الفكر العام للجماعة أو التنظيم. ويعود سبب لجوء الجماعة الإسلامية إلى الأبحاث المنفصلة لتقرر من خلالها فكرها ومنهجها إلى كونها في الأساس (حركة شباب) وليست (حركة علماء) وافتقارها إلى العلماء الراسخين الذي يفتونها في النوازل والمستجدات التي يتخوضون فيها وهي قضايا لو حدثت في عهد عمر لجمع لها أشياخ بدر فما بالك بشباب متحمس لم يتجاوز الثلاثين من العمر ويحتاج إلى فتاوى تتعلق بقضايا في أصلها لا تناط إلا بالخليفة او من يقوم مقامه كما قال ابن القيم عن الجهاد (وفي الجملة فإن البحث في دقائق الجهاد من وظيفة خواص أهل العلم). كما أن من أسباب اللجوء إلى فكر الأبحاث هو حالة الجفاء والتيبس التي أصابت علاقة الجماعة بالعلماء من خلال وصف علماء الأمة بسدنة السلطان وأعوان النظام إلى غير ذلك من الصفات التي تبعد الهوة بين الفريقين الأمر الذي جعل تلك الجماعات في حرج شديد لفقدانهم إلى مرجعية علمية تؤصل منهجهم وتؤكد اجتهاداتهم فرأت تلك الجماعات أن تعالج هذا الخلل الخطير –وهو فقدان المرجعية العلمية- بالبحث العلمي ،وتحرير مواضع النزاع والخلاف وحسمها من خلال أبحاث شرعية وفكرية تقوم بها كوادرها العلمية والتنظيمية علها أن تدرك ما فاتها من جفوة العلماء،وبذلك أصبحت تلك الجماعات مسيرة (بفكر الأبحاث) وليس (بفكر العلماء) وفرق كبير بين الفكرين. فكر الأبحاث: أساسه منهجية تعتمد تحقيقات علمية لبعض المسائل والقضايا التي يتمحور حولها فكر التنظيم ويختلف فيه مع غيرها من التنظيمات ومعلوم أن التحقيقات العلمية أو الأبحاث الشرعية وان كانت ذات أهمية في جانب حسم الخلاف في المسائل العلمية والفروع الفقهية والوصول فيها إلى قناعة أيا كانت درجتها من الصحة والقبول إلا أنها لا ترقى إلى درجة أن تجسد فكرا حيا أو مشروعا متكاملا للتغيير تسخر له الإمكانيات من أفراد و أموال وجهود بعيدا عن العلماء لأنها في الغالب أبحاث علمية محضة مجردة عن مناطها التطبيقي ،وبعيدة عن سياقها التاريخي، والتعيين الواقعي بالإضافة إلى انه لا يؤمن على تلك الأبحاث من غلواء التعصب الحزبي والصراع المذهبي من ممارسات سلبية تنأى بالبحث بعيدا عن إدراك الصواب كبتر النصوص،وحملها على غير محملها،وإلزام المخالف بلازم قوله ومحاكمته إليه. ومن ثم فقد حذر العلماء قديما من تناول الشريعة بصورة جزئية يقول الشاطبي: " الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي دليل كان وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل فإنما هو توهمي لا حقيقي" وقال في موضع آخر"فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً" وقال أيضا "وشأن متبعي المتشابهات أخد دليل ما أيّ دليل كان عفواً وأخذاً أولياً وإن كان ثمّ ما يعارضه من كلّي أو جزئي" لذا كان لابد من النظر إلى أدلة المسألة كلها مشمولة بأقوال أهل العلم لا أن ينطلق الإنسان في بحثه ليحشد لرأي قد حسمه وفرغ منه. الأمر الذي تبدو فيه هذه القناعات الفكرية وكأنها مبتسرة متكلفة أو نبتة غريبة في واقع غير ملائم لها وحينئذ يكون الإشكال ليس في التأصيل الشرعي للمسالة بقدر علاقتها بتحقيق مناط الحكم وتوقيت الممارسة وكفاية الإمكانيات ودقة الحسابات والنظر إلى العواقب والمآلات فإن الخلاف مثلا في واقعنا المعاصر بين كثير من مناهج التغيير المطروحة ليس في أصل مشروعية الجهاد وإنما في قضايا أخرى متعلقة بالواقع كتوفر الضوابط والشروط والتي لم يكن الخلاف فيها متوجها إلى شرعيتها بقدر ما هو متوجه إلى أمور أخرى يقف البحث المجرد عاجزا عن إدراكها ليتقدم العلماء لحسمها وبيان السداد فيها كترتيبها في سلم الأولويات وتقدير المصالح والفاسد والموازنة بينهما وهذا هو فكر العلماء الممتزج فيه العلم الراسخ لمقاصد الشرع أصول الدين ومناطات الأحكام بالتوفيق الإلهي والدراية الواعية والرشاد الرباني فهم ورثة الأنبياء وحملة الشريعة والمترجمون لمراد الله تعالى وهم أخشى الناس لله واتقاهم له و أورعهم عن محارمه. وقد أكد تلك الحقيقة الدكتور الحسن العلمي قائلا" إن نشأة بعض الحركات الإسلامية بعيدا عن تأثير العلماء وقلة اكتراث العاملين بالتحصيل العلمي قد فتح الباب لسيادة الجهال وتولي أعشار المثقفين في فهم الإسلام من السياسيين والحماسيين ومن لم يستنيروا بنور العلم وهؤلاء قد استولوا على مراكز التأثير والقيادة في تنظيمات إسلامية صاروا يحسنون فيها جعجعة وصياحا ويسوسون الناس بالعاطفة والحماس ولا يقيمون فيها لصوت العلم وزنا ولا يرفعون لحسن الفهم رأسا ...ونجد كثيرا من الجماعات الإسلامية اليوم نشأت بعيدا عن مدارس أهل العلم والتلمذة على أيديهم بل سلك بعضها مسلك مخاصمة العلماء ومناصبتهم العداء