بعد إطاحة الشعب التونسي بحُكم الرئيس زين العابدين بن علي، الذي فجَّر شرارة الثورة الشعبية المصرية التي خلعت الرئيس حسني مبارك بعد ثلاثين عاما من الدكتاتورية، بدأ القائمون على إدارة الفترة الانتقالية في البلدين، مجموعة من الإجراءات التي تستهدِف الإصلاح والمحاسبة وتوفير الضمانات بعدَم تِكرار مآسي حُكم الفرد في الدولتيْن. لكن السيد هاني مجلي، نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية في نيويورك، أوضح في حوار خص به swissinfo.ch في واشنطن أن نجاح الثورتيْن في مصر وتونس "يستلزم تطبيق آليات العدالة الانتقالية". swissinfo.ch: في البداية، ما هو تعريف العدالة الانتقالية وآليات تحقيق أهدافها؟ هاني مجلي: نشأ تعبير العدالة الانتقالية، انطِلاقا من مجموعة من الآليات الواجِب تطبيقها في أعقاب التحوّل من نظُم شمولية دكتاتورية إلى ديمقراطيات ناشئة، بهدف مواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي. ومن بين هذه الآليات: أولا، استخدام محاكم جنائية لمحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات. ثانيا، تشكيل لِجان تقصِّي الحقائق لمعرفة ما حدث في الماضي. ثالثا، توفير سُبل لتعويض الضحايا والاعتذار عمّا لحق بهم. رابعا، اتخاذ إجراءات لإصلاح القوانين المُجحفة بحقوق الإنسان وإعادة تأهيل مؤسسات الشرطة وأمن الدولة وأقسام وزارة الداخلية، وتحويلها من مؤسسات قمعية إلى مؤسسات تحافِظ على أمن المواطن والمجتمع وتحترم حقوق المواطنين. وبالتالي، فهدف العدالة الانتقالية يتلخَّص في الانتقال إلى مجتمع تسُود فيه العدالة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وتوفير ضمانات، تحُول دون تكرار انتهاكات تلك الحقوق وتيسير التحوّل نحو الديمقراطية. تابعنا تشكيل لجان في تونس للمحاسبة والإصلاح والتحقيق في انتهاكات أجهزة الأمن، وينشغل النائب العام في مصر بالتحقيق مع كِبار المسؤولين، فيما تتشكل لجان لتقصِّي الحقائق. فما هو تقييمك لأداء القائمين على الفترة الانتقالية فيما يتعلّق بآليات العدالة الانتقالية؟ هاني مجلي: لاحظت أن الحكومة الانتقالية والمجتمع المدني في تونس تحرّكوا بشكل أسرَع بكثير من نظرائهم في مصر، فأسَّسوا لجنة للتحقيق في فساد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ولجنة لبحث الإصلاحات اللازمة ولجنة ثالثة لملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات التي وقعت بحق المتظاهرين في شهر ديسمبر. كما تم اتخاذ قرار بالغ الأهمية استجابةً للضغط الشعبي بحلّ الحزب الحاكم السابق، بينما في مصر، تم التركيز على تحويل عدد من المسؤولين السابقين للتحقيق بتُهم تتعلق بالفساد. وكان من الغريب أن يتم التحقيق مع وزير الداخلية السابق حبيب العادلي بتُهم الفساد والتربح، وليس عن انتهاكات حقوق الإنسان وممارسات التعذيب الوحشي في أقسام الشرطة والسجون المصرية، ولا زال هناك خلاف بين المصريين في تحديد أولويات المحاسبة وآليات العدالة الانتقالية وما إذا كانت الأولوية الأولى لملاحقة المسؤولين عن قتل المئات وجرح الآلاف من المتظاهرين أم انتهاكات مباحث أمْن الدولة أو إصلاح قوانين ممارسة الحقوق السياسية وصياغة دستور جديد، بدلا من تعديل دستور استغلّه النظام البائِد في إقصاء كل منافسي الحزب الوطني الذي كان ينفرد بحُكم البلاد، كما بدأت المطالبة بحل ذلك الحزب. وبغضِّ النظر عن الاختلاف في سرعة الإجراءات، فإنه في حالتيْ تونس ومصر يتعيَّن تحديد الأولويات ثم المُضي قُدُما في تطبيق آليات العدالة الانتقالية لنجاح الثورتيْن. السيد هاني مجلي، نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية في نيويورك (swissinfo) ولكن، ما أهمية أن تكون المحاسبة على ممارسات الماضي سريعة وحاسمة، وكيف تتم التفرقة بين المحاسبة والرغبة في الانتقام؟ هاني مجلي: لكي يطمئِن الشعب في مصر وتونس على نجاح الثورة، تصبح عملية المحاسبة هامة للمجتمع وللضحايا، ولكي يتأكَّد الجميع من أن انتهاكات الماضي لن تتكرّر في المستقبل، ولكن يجب عدم التعجّل في إصدار الأحكام في محاكمات سريعة لا تخضع للمعايير الدولية للمحاكمات العادلة، وإلا تحوّلت المحاسبة إلى انتقام يُمكن معه للنظام الجديد المأمول في تحوّله نحو الديمقراطية وسيادة القانون، أن يقع في فخّ عدم احترام حقوق الإنسان. هل هناك نصائح توجِّهها للقائمين على الفترة الانتقالية في تونس ومصر، استنادا للدروس المستفادة من تجارب أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية؟ هاني مجلي: أستطيع تقديم عدّة نصائح. أولها، أن يدخلوا في حِوار مع المجتمع، وخاصة من كانوا ضحية للنظام الاستبدادي السابق والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وضحايا الفساد، للتوصل إلى تحديد دقيق للمطالب والأولويات مع شرْح حقيقة استِحالة تطبيق كل آليات العدالة الانتقالية في نفس الوقت وعلى وجه السرعة، بل سيستغرق تنفيذها سنوات. ثانيا، اتخاذ خُطوات عملية توضِّح للمجتمع أن الثورة أسفَرت عن تغييرات حقيقية من خلال احترام فِعلي لحقوق الإنسان ووقف استخدام الأمن في القمْع ومواصلة محاسبة المسؤولين عن الفساد المالي والسياسي. ثالثا، الشروع في إصلاح القوانين المقيّدة للحريات وإصلاح المؤسسات التي تسبَّبت في الماضي في انتهاك حقوق المواطنين وعدم السماح لمَن أفسدوا في الماضي، بمواصلة نشاطهم الهدام. رابعا، تفعيل لجان الحقيقة، لكشْف حقيقة ما كان يحدُث في الماضي وضَمان عدم تكراره. ما هو دور المركز الدولي للعدالة الانتقالية في مساعدة مصر وتونس، وهل هناك اتصالات تمَّت بينكم وبين القاهرةوتونس؟ هاني مجلي: نعم، هناك اتصالات تمَّت مع مؤسسات المجتمع المدني في البلدين، بل وقامت لجنة تابعة للمركز بزيارة لتونس وأجرت لقاءات مع اللِّجان الثلاث التي تأسّست بعد الثورة، كما قام وفْد من المركز بزيارة لمصر وأجرى حوارات مع منظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعات المصرية حول آليات العدالة الانتقالية وأولويات استخدامها. وهناك فرع للمركز في بيروت يُمكن الاستِعانة به في استقدام خبراء من أوروبا الشرقية أشرفوا في الماضي على إصلاح وإعادة تأهيل أجهزة الشرطة وأمن الدولة، لمساعدة مصر وتونس في الاستفادة من خِبراتهم في هذا المجال الهامّ لعملية التحوّل الديمقراطي. كما يمكن للمركز الدولي للعدالة الانتقالية تزويد مصر وتونس بخبراء في تطبيق آلية لجان الحقيقة التي تشكَّلت في أكثر من أربعين دولة في أعقاب تغيير أنظمة الحُكم الدكتاتورية وخُبراء في المحاسبة والمحاكمة وآليات جَبر الضَّرر أو التعويضات التي استُخدِمت في المغرب بعد وفاة الملك الحسن الثاني، وبالتالي، يمكن للمركز نقل خِبرات الدول الأخرى في العدالة الانتقالية، حتى تتجنّب مصر وتونس الوقوع في أخطاء وقعت فيها دول أخرى في الماضي. بعد عشرات السنين من حُكم بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، هل يمكن تصوّر تحقيق العدالة الانتقالية في شهور؟ هاني مجلي: يجب أن يُدرك الشعبان، المصري والتونسي، أن تحقيق العدالة الانتقالية يمثِّل عملية تدريجية تستغرِق سنوات. وليَتذكَّر الشعبان أن تنفيذ آليات العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا بعد انتهاء نظام الميز العنصري، استغرق عدة سنوات. كما أن لجان تقصِّي الحقائق في أمريكا اللاتينية في أعقاب سقوط الدكتاتورية في بيرو وتشيلي وتقديم المسؤولين السابقين لمحاكم جنائية، استغرق عشرة أعوام. والمُهمّ في تطبيق آليات العدالة الانتقالية، تحديد الآلية التي يراها المجتمع أولوية قصوى ثم التي تليها في الأهمية، بشرط أن يظلّ الباب مفتوحا أمام استكمال كل الآليات اللازمة لتحقيق العدالة الانتقالية وضمان زوال أسباب انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في الماضي. المصدر: سويس انفو