ظل المصريون سنوات طوالا يرزخون تحت وطأة الحكم الفردي الاستبدادي الذي اتخذ من البوليس دروعًا سابغاتٍ لحمايته من الشعب، وكان الحاكم طيلة هذه السنوات القاتمة يحكم بتفويض لا نهاية له إلا بالموت أو القتل، حتى إذا جاءت على مصر هذه الثورة التاريخية التي سجَّلها التاريخ بحروف من نور، وبدأ الشعب يتنسم رائحة الحرية بعد أن أزكم الفساد أنوفهم، كان الاستفتاء على التعديلات الدستورية هو الاختبار الأول للجميع، وهو أول استفتاء حقيقي تخرج نتائجه من رحم الصناديق الانتخابية بعد أن ظلت النتائج حينًا من الدهر تتأرجح في صفاقة بين 99% وبين 99,99%. ولأن الاختبارات لابد فيها من ناجحين وراسبين بطبيعة الحال؛ فإن الاستفتاء على التعديلات الدستورية مثله مثل كل الاختبارات نجح فيه من نجح، ورسب فيه من رسب.. وأرجو ألا يتسرع القارىء الكريم في الحكم على مقياس النجاح والرسوب، فكلمة (نعم) أو (لا) لا تعني النجاح والرسوب.. بمعنى آخر فليس الناجح من قال (نعم)، وجاءت النتائج وفق إرادته؛ وليس الراسب من قال (لا) وأسفرت النتائج عن غير ما أراد؛ وإنما: - نجح (الشعب) في أن يقول كلمته الفاصلة عندما تدفق على صناديق الانتخابات متعطشا لحياة جديدة ينعم فيها بالعدل والاستقرار، بعد أن ظل طيلة حياته عازفا عن المشاركة في تمثيليات صورية ليس لها من الديمقراطية إلا اسمها، ولا من الحياة النيابية إلا رسمها!! - نجح (الجيش المصري) بجدارة واستحقاق في إدارة الاستفتاء الذي كشف اللثام عن رغبةٍ صادقةٍ من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في نقل الحكم إلى الشعب ليتفرغوا لمهمتهم بعد أن ظلت النُّظم العسكرية المتعاقبة تحكمنا بقبضة حديدية منذ سقوط الملكية التي ظل الكثيرون يترحمون على أيامها الخوالي لما رأوه من فساد في أنظمةٍ رفعت شعار الديمقراطية ومحاربة الاستبداد وغيرها من الشعارات الجوفاء التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع . - نجح (الراضون) عن النتيجة باعتبارها معبرة عن رأي هذا الشعب المصري الذي قال كلمته في التاسع عشر من مارس 2011م، محترمين بذلك اختيار الأغلبية الموافِقةِ على التعديلات الدستورية، وضربوا بذلك المثل الأعلى في احترام الآخر، والنزول على رأي السواد الأعظم من مواطني هذا البلد. - نجحت التيارات الإسلامية الفاعلة في توحيد الصفوف، والتسديد والتقريب بين أطيافها المختلفة لتتفق على رأي سواء، ونَبَذَ فريقٌ من الذين لم يفهموا الإسلام فهمًا صحيحًا تعصبهم لفكرٍ معينٍ أو مذهبٍ، وأرجو ألا أُفهم خطأً أنني أقصد اتحاد هذه التيارات في وجه نصارى مصر -كما قد يتوهم البعض- فلهم مثل ما لنا وعليهم مثل ما علينا؛ وإنما اتفاقهم كمواطنين مصريين على أهمية الإسهام في هذه المرحلة الشائكة من تاريخ مصر المحروسة، بعد أن شهدت عزوف بعضهم عن المشاركة في الحياة السياسية، وهي الروح التي أتمنى دوامها بين كل الأطياف وليس بين الإسلاميين فقط. - رسبَ من جلس في بيته يراقب الأحداث، أو بمنأى عنها، دون مشاركة فاعلة منه في صنع مستقبل مصر من خلال نظام حكم جمعي يحترم الكل، ويضمن لهم حياة كريمة مستقرة، وفاته هذا العُرس الذي ارتدتْ فيه مصر أجمل حُللها وأبهاها، فقد رأينا الطوابير لأول مرة في (تاريخ الطوابير المصرية) تنتظم كعقد اللؤلؤ لتسجل رقما غير مسبوق .. ولقد رأيت بعيني في الريف المصري حرص المُسنين قبل الشباب على المشاركة في هذه التجربة الرائدة.. ولن أنس تلك المرأة القروية البسيطة التي لم تنل حظا من التعليم وقد جاءت تستند على اثنين من أحفادها لتُدلي بصوتها بعد أن أيقنت بأهميته في بناء المستقبل الذي قد لا تجني ثماره حال حياتها. - وأخيرا.. رسب من لم يرضوا بنتائج الاستفتاء، واتهموا الشعب المصري بالسذاجة والسطحية، والجهل والتخلف؛ ولم يختلفوا كثيرا عن النظام البائد الذي طالما تذرَّع في كل مناسبة تُذكر فيها الحرية أو الديمقراطية بأن الشعب المصري غير مستعد للتجربة الديمقراطية، وليس ما قاله (أحمد نظيف) عنا ببعيد، وجاء يوم الاستفتاء ليُكذِّب هؤلاء جميعا، ويؤكد المصريون جدارتهم واستحقاقهم لنظامِ حكمٍ عادلٍ تكون لهم فيه اليد الطولى والقَدَحُ المُعَلَّى.. وما ذلك على الله بعزيز!! كاتب وإعلامي مصري [email protected]