قدمت التعديلات الدستورية، التي وضعتها اللجنة المكلفة برئاسة المستشار طارق البشري، طريقا لنقل السلطة من المجلس العسكري إلى سلطة مدنية منتخبة، ثم طريقا محدد زمنيا بعد انتخاب مجلس الشعب والشورى، ينتهي بوضع دستور جديد بعد عام من انتخابات البرلمان. وهي بهذا خريطة طريق دستوري للوصول إلى دستور جديد، بناء على رغبة المجلس العسكري في تسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة أولا، تتولى هي عملية وضع دستور جديد. وأراد المجلس العسكري بهذا، أن لا يكون مشرفا أو مسئولا عن وضع دستور جديد، ومال إلى عدم وضع دستور جديد في أول المرحلة الانتقالية التي يشرف عليها. وعندما طرحت النقاشات حول تلك التعديلات، كانت تدور حول أفضل الطرق التي تؤدي إلى دستور جديد، ولكن الجدل سار في مسار آخر، وتحول إلى وجهة أخرى، حيث بدأت حملة إعلامية مكثفة، ومعها توافق من كل النخب والقوى السياسية العلمانية، ضد التعديلات الدستورية، وبدأت المعركة تتغير، فبدأ التيار الإسلامي يحشد قواعده وجماهيره، وبدأت الكنيسة تحشد جماعتها حشدا، فأصبحنا أمام معركة حاشدة، قامت فيها التنظيمات الإسلامية بدور بارز، وقامت فيها الكنيسة بدور التنظيم المسيحي. والمشكلة التي أدت إلى هذا الوضع، أن الجهة الرافضة للتعديلات الدستورية، رأت أن أي لجنة تأسيسية تأتي عن طريق برلمان منتخب، سيكون للإسلاميين فيها نصيب معتبر، لذلك أرادت البحث عن طريق لوضع دستور جديد بعيدا عن الانتخابات البرلمانية المباشرة، أي بعيدا عن الإرادة الشعبية الحرة، مما نتج عنه تصور أن النخب العلمانية تريد إعادة النظر في المادة الثانية، وتقييد حرية العمل السياسي للتيار الإسلامي، لمنع قيام دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية. ولكن الاستفتاء في حد ذاته، كان ذهابا للإرادة الشعبية الحرة، والتي حسمت النتيجة بنعم. وأصبح هذا الاستفتاء، بسبب المعركة السياسية التي فجرتها النخبة العلمانية، استفتاءا على المرجعية الإسلامية للنظام السياسي، واستفتاءا على دور الحركة الإسلامية وتواجدها في الشارع، وبالتالي دورها في المستقبل. وبهذا نصل لخلاصة مهمة، فقد حسم هذا الاستفتاء الهوية الإسلامية للدولة، وعرقل إمكانية تقييد الدور السياسي للحركة الإسلامية، وهو بهذا يفتح الباب أمام توافق وطني يضع في اعتباره التركيبة السياسية والثقافية للمجتمع المصري. فعندما يوضع الواقع في الاعتبار، يمكن أن نصل إلى توافق وطني يعبر عن الواقع، ولكن عندما نضع رؤى وأفكار النخب في الاعتبار فقط، ونتجاهل الواقع، لن نصل إلى توافق وطني. لأن أي حوار يتجاهل الأوزان النسبية لمكونات المجتمع المصري، ويفتقد لأي معيار لتقييم الرؤى السياسية المختلفة، سوف يؤدي إلى خلاف لا يصل بنا إلى أي توافق وطني. فالتوافق في حد ذاته، هو توافق بين المكونات المختلفة للمجتمع، يحفظ لها جميعا كل حقوقها رغم وزنها النسبي، ولكن يعطي للأوزان النسبية الأكبر، الحق في الاختيارات السياسية والمرجعية العامة. هي معركة سياسية بامتياز، وليس في هذا أي عيب، لأنها أصبحت التجربة الديمقراطية الأولى للشعب المصري، بعد عقود من الاستبداد والقهر، ونجح فيها الشعب المصري بصورة تؤكد أنه ليس فقط مؤهلا للديمقراطية، بل وأنه يمثل مجتمعا ناضجا ونشطا وإيجابيا، وكل المظاهر السلبية التي ألصقت به، كانت نتاج الاستبداد الحاكم. وأصبح من الضروري القول، أن مسار الحركة الوطنية ومكوناتها قد ظهر في هذا الاستفتاء، فقد اتهمت جماعة الإخوان المسلمين بأنها تخرج عن مسار الحركة الوطنية، وتشق الصف الوطني. وقد أتضح أن الجماعة كانت تعبر عن الرؤية التي وافقت عليها الأغلبية، لذا يمكن القول أن مسار الحركة الوطنية يمثل مسار الأغلبية المجتمعية، وأن الحركة الإسلامية كانت في قلب الأغلبية المجتمعية، ومثلت العمود الفقري لها، وعبرت عن رؤى غالبة لدى المجتمع. فلا يمكن أن تكون الحركة الوطنية ممثلة لرأي نخب، ولا علاقة لها بمواقف الأغلبية المجتمعية. فمسار الحركة الوطنية يتحدد من خلال الأهداف والغايات والاختيارات السائدة في المجتمع. فالحركة الوطنية في تصوري، هي التجمع السياسي الهادف إلى إحداث التغيير والإصلاح، من أجل بناء النظام السياسي الذي يعبر عن المجتمع بكل مكوناته وأوزانه النسبية. والبعض حاول رسم نفس الصور القديمة عن ثنائية الحزب والوطني والإخوان، وهي محاولة لجعل الإخوان وكل التيار الإسلامي في وجه الثورة ومع النظام السابق، رغم أنه الضحية الأولى للنظام السابق، ثم نجد أن التيار الإسلامي عبر عن أغلبية مجتمعية واضحة، ولا يمكن أن تكون الأغلبية مع النظام السابق، لأن هذه الأغلبية هي التي أسقطت النظام السابق. ومن الواضح أن الحزب الوطني أعلن الموافقة على التعديلات دون توافق داخلي، وأن المنتمين له لم يكن لهم حضورا مؤثرا، وأن بعضهم كان مع التعديلات، وبعضهم كان ضدها. وقد ظهر أن الحزب الوطني لم يعد له وجود مؤثر، وأنه في حالة انهيار كبير. ومازالت الجماعة المسيحية تعاني من محاولة تخويفها، من قبل النخب العلمانية، وهي تستجيب بسرعة لعملية التخويف، وتذهب سريعا إلى حالة العداء للتيار الإسلامي، ثم تحتشد من أجل النخب العلمانية وخيارتها، بعد أن كانت تحتشد من أجل النظام السابق والنخب العلمانية معا. ولكن الجديد هذه المرة، أن الجماعة المسيحية كانت نشطة وحاضرة وفاعلة، وهي بهذا تبدأ عملية الاندماج الفاعل في الحياة السياسية، أيا كانت خيارتها. ولكن المشكلة أن الحشد جاء من الكنيسة، ومعنى هذا أن الكنيسة مازالت تمارس دورا سياسيا حزبيا، وهي مؤسسة تملك السلطة الدينية، وبهذا تجمع السلطة الزمنية والدينية في حياة الجماعة المسيحية. والمشكلة ليست في أن ترى الجماعة المسيحية في لحظة ما، أن قضية سياسية بعينها سوف تؤثر عليها، ومن ثم تحتشد تجاه ما تراه لمصلحتها، أيا كان مدى صواب رؤيتها. لذلك فقد أصبح من المهم أن يكون للجماعة المسيحية تنظيمات شعبية مدنية، تعمل في المجال الاجتماعي والثقافي والديني، وتهتم بالقضايا المسيحية الخاصة والقضايا المجتمعية العامة، وتتفاعل وتتحاور مع غيرها من القوى الاجتماعية، خاصة الحركات الإسلامية. وهو ما يجعل فتح الباب أمام الحق في التنظيم، ووضع قانون للتنظيمات الشعبية بمختلف أنواعها، من الديني إلى المهني والحرفي والنقابي والجغرافي، هو أفضل وسيلة لتنظيم المجتمع، ووضع إطار قانوني للحركات الإسلامية، وفتح الباب أمام الجماعة المسيحية لتجد تنظيمات تعبر عن خصوصيتها في المجال الاجتماعي، بصورة مستقلة عن الكنيسة، وبهذا نرفع عن الكنيسة دور ورطها وأضرها، رغم أنها قبلته ورحبت به. وفي كل الأحوال، لقد فتح الاستفتاء على الدستور طريق التحول الديمقراطي، وكانت الحشود الشعبية دليلا على أن مصر بصدد بناء نظام سياسي حر وعادل وقوي، رغم أي عقبات أو مشكلات تعترض الطريق لمصر الجديدة. ولا يجب أن تكون النتيجة مخيفة للبعض، لأن كل فرد في المجتمع مسلم أو مسيحي، يجب أن يدرك أن أمنه يتحقق من خلال الترابط المجتمعي الذي فقدناه في عهد الاستبداد، ونستعيده الآن في عهد الحرية، وسوف نبنيه بالحوار الحر الخلاق، في مناخ ديمقراطي سليم.