من حق وزيرة السياحة التونسية آمال كربول أن تروج للسياحة في بلادها بشعار سياسي عندما قالت للسياح الغربيين " تعالوا إلى تونس أول ديمقراطية في العالم العربي وعيشوا لحظات تاريخية وادعموا الانتقال الديمقراطي في تونس، وتعالوا أيضا للاستمتاع بجمال شمس تونس وشواطئها وصحرائها". هي وزيرة ذكية تخاطب الوعي السياسي لدى السائح الغربي المدرك لقيم الديمقراطية والحرية والذي يمارسها بشكل منتظم في شكل انتخابات وتداول سلمي للسلطة ليختار من يحكمه ويمثله بكل حرية ونزاهة وشفافية، كما أنها تخاطب الجانب السياحي والعاطفي فيه أيضا عندما تسوق له شمس تونس الجميلة الدافئة وشواطئها الساحرة وصحراءها الرائعة. هو ربط موفق بين ما هو سياسي وما هو سياحي، فالرسالة أن الزائر الغربي بمجيئه لهذا البلد المطل على المتوسط والذي لا يفصله عن أوروبا سوى البحر فإنه بذلك سيدعم الانتقال والتحول الديمقراطي، أي سينتصر للقيم التي هو مؤمن بها وسيساهم في تكريسها في بلد عانى لعقود من الاستبداد وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أنه في نفس الوقت سيجد من المتعة التي يبحث عنها الشيء الكثير فيه. حتى الآن فإن تونس تبدو مدهشة وناضجة، لأنها تقود عملية الانتقال الديمقراطي بإصرار وثبات وعزيمة قوية رغم أنها مازالت مثل سفينة تمخر عباب بحر لجي تتقاذفها فيه أمواج عاتية في ليالي عصيبة مظلمة، وكانت موجة واحدة مما تتعرض له سفينة تونس كفيلة بحدوث انتكاسة تجعلها ترتد إلى ما قبل 14 يناير وهو اليوم الذي انتصرت فيه ثورتها العظيمة وهروب بن علي إلى خارج البلاد، لكن الله سلم. تشهد تونس مثل بلدان الربيع العربي الأخرى آفة الصراع السياسي والمراهقة الفكرية والسياسية من بعض التيارات والأحزاب، والأخطر أنها تشهد بروز تيارات إسلامية متطرفة تنتهج العنف والإرهاب ضد الأجهزة الأمنية والمواطنين والديمقراطية كقيمة وفكرة ونظام حكم وتغتال الخصوم السياسيين مثل شكري بلعيد ومحمد البراهمي وكان مقتل أحد هذين القائدين السياسيين كفيل بنشوب اقتتال أهلي أو فوضى عارمة تتيح الفرصة لإعادة إنتاج النظام السابق وجعل التوانسة يكفرون بالثورة باعتبارها جلبت لهم عدم الاستقرار والمخاطر التي تهدد كيان الدولة والسلم الاجتماعي وهي البضاعة الفاسدة التي تتاجر بها الأنظمة البائدة لتغسل سمعتها وتاريخها القذر، إذ ما قيمة استقرار مع الاستعباد وحكم الفرد وطغيان الدولة البوليسية وذل الفقر والفساد، لكن رغم ذلك فإن وعي التوانسة الشعب والقوى السياسية الأساسية والترويكا الحاكمة ساهم في إنقاذ السفينة من الجنوح الخطر بل المدمر، والوعي هنا موجه بالأساس لقاطرة القوى الكبرى المؤثرة وعلى رأسها حزب حركة النهضة الإسلامي - إخوان تونس - بزعامة الشيخ راشد الغنوشي الذي أثبت مع حزبه طوال أكثر من ثلاث سنوات منذ نجاح ثورة الياسمين أنه يتمتع بمرونة وحنكة وذكاء ووطنية ومسؤولية ورؤية عاقلة تنبذ الاستحواذ أو الاستئثار بالسلطة والهيمنة على مفاصل الدولة كما أثبت مصداقيته في مد الأيدي للشركاء وإعلاء قيمة التوافق الوطني نظريا وعمليا ورغم أنه الفائز الأكبر بمقاعد المجلس التأسيسي في انتخابات نزيهة إلا أنه لم يستأثر بالسلطة بل حصل على نصيب منها كما القوى الأخرى المدنية التي جاءت بعده وبعدد أقل من المقاعد. الأحزاب العلمانية والليبرالية واليسارية التونسية الأخرى تتمتع بذات الدرجة من الوعي حيث تجاوبت مع النهضة وتعاونت من أجل تونس وإنجاح التجربة ولم تلجأ لوضع العراقيل ورفض الشراكة وتعويق المسيرة لإقصاء الخصم وإخراج الإسلاميين من المشهد ولو بالاستعانة بالمؤسسة العسكرية، وعندما كان بعضها يلعب هذه اللعبة كانت النهضة تقدم تنازلات حتى تسير السفينة بأمان حتى تخلت عن حقها في رئاسة وتشكيل الحكومة، إنه الوعي العام للشعب التونسي بفضل التعليم والثقافة والتماس مع الغرب وخصوصا أوروبا وهو الوعي أيضا للقوى والزعامات السياسية المحتكة بالغرب والمتشبعة بالقيم الليبرالية الديمقراطية، ومنهم قادة النهضة كذلك، وبالتالي فقد نجحوا جميعا في قطع خطوات جيدة نحو التحول وأنجزوا دستورا حديثا حظى بالإجماع في إطار مسار ديمقراطي واحد سليم ، ودون أن يستهلكوا أنفسهم وأموالهم في انتخابات عديدة إنما في انتخابات لمرة واحدة لوضع أساس صلب للبناء الديمقراطي ثم يبدأ بعد ذلك التنافس الانتخابي ليقرر التوانسة من يحكمهم وفق الدستور الجديد. تونس هي صاحبة شرارة الربيع العربي وهي الوحيدة اليوم صاحبة التجربة الديمقراطية الموفقة بينما على الضفة الأخرى في بلدان الربيع العربي: مصر وليبيا واليمن نجد تجاربها متعثرة ومهددة بالإخفاق، بل هناك مخاوف من الردة إلى ما قبل سقوط أنظمتها المستبدة والعودة إلى الماضي بشكل أشد سوءا بسبب صراع أناني مدمر على السلطة في ظل غياب الوعي والعقل الذي تمسكت بهم تونس فنجت وبسبب أن الإسلاميين في تلك البلدان - خصوصا الإخوان في مصر - أرادوا الاستحواذ على السلطة وحرمان شركائهم منها وارتكبوا أخطاء مكنت خصومهم من قلب الطاولة عليهم. ليتهم كانوا يتابعون ويتعلمون من مسار حركة النهضة في تونس، كانوا وفروا على أنفسهم وعلى بلدانهم وثوراتهم التعطيل والخسائر الدامية. تحية الى تونس وشعبها وقواها السياسية، والحذر من أي ردة أو محاولة إفشال التجربة لأن هناك قوى عربية ودولية لا تريد صراحة النجاح في أي من بلدان الربيع العربي حتى تعظم مبرراتها في تسويق مقولة فاسدة بأن الاستقرار ولو في حضن الاستبداد أفضل وأضمن من الديمقراطية التي تجلب الفوضى. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.