تعيش مصر: الدولة والمجتمع والناس أزهى عصور الانسداد في تاريخها المعاصر: فلا أفق يلوح في نهاية الطريق. ولا بادرة أمل في آخر المطاف. ولا بدائل متسعة بعرض الوطن. ولا حلول بعدد مشاكله وأزماته. مصر تعيش حالة انسداد مجتمعي حاد وصراع سياسي شرس لم تشهد لهما مثيلا منذ أن عرفت مصر حالة الدولة القومية. مصر تعيش أزهى عصور الاستقطاب، والبديلين ثالثهما مرفوع، حالة من الشلل التام لم ولن تخرج منها ولا لمسافة خطوة واحدة منذ 3 يوليو. ما بني على باطل فهو باطل هكذا التصور الذي يخرج به من يتابع زفة التصويت سمي استفتاء على دستور كتب تحت حد الحراب، وفي ظل حالة انقسام مجتمعي غير مسبوقة ولم تشهد البلاد لها مثيلا، كان التصويت فيها بين نعم ونعمين، ومن دعا للمقاطعة اعتقل، ومن شارك ولكن دعا للتصويت بلا اعتقل. ما بني على باطل فهو باطل، محاكمات واعتقالات بالآلاف ولا أريد أن أقول قتلى، الحل الأمني ثبت فشله، والحل الأسطوري عن طريق الفارس الذي يخرج من رحم الغيب فيرفع حالة الاستقطاب بزفة مصنوعة بالكدب لن تحل الأمور. والسير في متاهة الطريق أخذنا إلى اللاشيء وهكذا الأوهام والسير حسب وقع السراب. وصناعة الوعي الكاذب بأن الأزمة في طريقها للحل لن يثمر شيئا، وترويج الوهم بأن القادم أحلى زور. وإعلام السراب والتلاعب الجماعي بعقول المصريين وتزييف وعيهم واغراقهم في سيل جارف من الأخبار المدسوسة عن محاربة الإرهاب ومكافحة الإرهابيين لن تحسّن صورة بالغة القبح والدمامة. وأنهار السمن والعسل القادمة من بعض بلدان الخليج لن تستمر، هكذا طبائع الأمور وهكذا هي السنن الثابتة في العلاقات بين الدول. فالدول ليست جمعيات خيرية. ولن ينجح أحد ولو أوتى ملك سليمان ومال قارون في استمرار الدعم لسد حالة عجز هيكلي مزمن على المستوى الاقتصادي، ولا شرعنة حالة من حالات اغتصاب السلطة على المستوى السياسي. الأوهام لا تصنع الحقائق. والكذب لا يدعم معلومة صحيح، ولو ظلوا ينفخوا في شائعات مائة عام. واغتصاب السلطة لن ينتج شرعية نظام. هذه حقائق ومسلمات، من أراد أن يعترف بها فأهلا، ومن أنكر، فليعش في إنكاره، وليلحق بأصحابنا من مرضى الإنكار. البلد لم ولن تتحرك خطوة واحدة إلى الأمام ويخطئ من يظن أن السير في المكان تسمى حركة، ويخطئ من يظن أن المراوحة في المحل تسمى تقدمًا. الزمن ليس لصالح النظام الحالي حتى لو استكمل الديكور الشكلاني لبعض مظاهر الديمقراطية، الأزمة أعمق مما يتخيل الواهمون، والشرخ قد طال الأساس وليس الجدران. الزمن في مثل حالتنا المصرية جزءًا من المشكلة، ولن يكون جزءًا من الحل. مرور الزمن: يعمّق الأزمة. ويزيد الشرخ المجتمعي اتساعا. ويعمل على التعجيل بالانهيار الاقتصادي وما يعقبه من متوالية الانهيارات على مختلف الصعد. مرور الزمن يسرّع بفعل نظرية الدومينو، التي أول أوراقها الاقتصاد، ثم تكر السبحة بعد انفراط عقدها. مرور الزمن يعمّق من الأزمة، ويزيد من اتساع الفجوة، واستفحال الهوة، ولن يغطي تضخمها دعم خارجي مرهون بمطالب قد تكون فوق طاقة أي نظام وطني، حتى لو لم يكن النظام وطنيا، فلن يتحمل الشعب ضغطا فوق طاقته. الانسداد هي الكلمة الأقرب تعبيرًا عن حالتنا المصرية فلا: بدائل. ولا آفاق. ولا اختيارات. ولا حلول. ولا مسارات. ولا سيناريوهات. حالة عقم فكري وإداري تأخذ بتلابيب النظام، فلا يصلح معها: هروب إلى الأمام. ولا دجل بسير متوهم وليس مظنون في متاهة الطريق. ولا استكمال الإجراءات الشكلية الديكورية عن الديمقراطية، ولا مفاهيم رنانة عن التيار الرئيسي التي تستبعد ما يقرب من ثلث القوى الفاعلة في المجتمع. النظام المصري الحالي نظام لا يشوبه العوار ولا الاعتلال بل الانهيار والاختلال. والطعن موجه إلى أصل قيامه وأساس نشأته، وليس إلى بعض الجوانب الشكلية أو الطعن في أحد ملامحه أو تفصيلاته الصغيرة. نظام مبارك على كل ما فيه كانت تحميه غلالة ولو رقيقة من الشرعية يفتقر إليها النظام الحالي. ليس هناك بديل عن المصالحة الوطنية. وليس هناك إلا الحلول الوسط، أو حتى أنصاف الحلول. أنصاف الحلول في الطريق الصحيح، خير من أوهام الحلول في الطريق الخطأ. وتنازلات متبادلة تحل المشكلة خير من متاهة لا نعرف أولها من آخرها. الكبر والغطرسة لن يحلا الأزمة الحالية. والغرور وأوهام السيطرة (ومفاهيم الأندر كنترول) على مقاليد الأمور يزيد الأمر تعقيدًا. الرجوع إلى حق الشرعية وحق الناس في الاختيار واحترام نتائج اختياراتهم (أيًا كانت) خير من التمادي في باطل اغتصاب السلطة.