تمثل الجريمة البشعة التى وقعت أمام كنيسة ا لقديسيين والمسجد المواجه لها بحى سيدى بشر بالإسكندرية تطوراً خطيراً وعلامة فارقة وجرس إنذار للمصريين جميعاً؛ للنظام الحاكم وسياساته العامة، ولجهاز الأمن وتحدياً لقدراته على مواجهة مثل تلك الجرائم الإرهابية، وللتيار الإسلامى بكل تنوعاته وإمكانية القيام بالدور المطلوب منه لإزالة الاحتقان الشديد بين المسلمين والمسيحيين، وللنخبة السياسية والفكرية التى لم تستطع حتى الآن الارتفاع إلى مستوى المسئولية عن وطن بأكمله بل للمجتمع كله الذى تحول إلى جزر منعزلة وطوائف متفرقة بل إلى انشغال كل فرد بنفسه وأسرته ومصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة. خطورة تلك الجريمة وتداعياتها أنها وضعت المسيحيين فى مواجهة الدولة التى بدت عاجزة عن حمايتهم خاصة أثناء خروجهم من دار للعبادة بعد قدّاس للصلاة، وأنها تكررت بنفس السيناريو تقريباً بعد عام من جريمة مماثلة فى أقصى الصعيد، وتلك الآن فى أقصى الشمال، وكان واضحاً تماماً الهتافات والصدامات التى ازدادت حدتها بين متظاهرين خرجوا من الكنائس بالمئات بل والآلاف أحياناً وبين قوات الأمن التى لم تستطيع كبح جماح تلك المظاهرات، وأيضاً الهتافات العدائية وتلك التى تستجدى الحماية الخارجية، وبعد أن كنا نسمع تلك النداءات من أقباط المهجر إذا بنا اليوم نسمعها من الداخل المصرى دون أى تردد أو خشية، وأصبح النظام عاجزاً عن الإجابة عن أسئلة المطالب التى ترفعها الكنيسة باسم المسيحيين وبعضها مشروع تماما،ً وبعضها يمكن مناقشته فى إطار الهم الوطنى العام، ولم تعد لعبة التوازنات تفيد النظام بأى فائدة، ولم تعد المسكنات مجدية فى التعامل مع ملفات متفاقمة تزداد حدتها يوماً بعد يوم. ولم تنجح القوى السياسية حتى تلك التى تتقمص دور الدفاع عن الأقباط كحزب التجمع اليسارى أو تلك التى لها تاريخ عظيم فى الدفاع عن الوحدة الوطنية واستوعبت المسيحيين فى نشاطها، لم تفلح فى ان تحوّل المطالب المسيحية إلى مطالب وطنية فى إطار منظومة وطنية شاملة للإصلاح ولم تستطع أن تجذب الكنيسة بعيداً عن تأييد الحزب الوطنى والنظام حتى بعد أن فشل الحزب والنظام فى ترضية المسيحيين، بل تحولت الكنيسة إلى حزب طائفى دينى، وتحول المسيحيون إلى حزب سياسى بكل معنى الكلمة وإن لم يكن يهتم بمطالب الإصلاح الشامل إلا أنه بللور أجندة مطالب خاصة بطائفة ولم يدرك بعد أن النظام غير قادر على تلبيته تلك المطالب إلا فى إطار وطنى عام وبعد تغيير شامل يجعل المصريين حقاً بكل توجهاتهم هم أصحاب القرار فى بلدهم بعد أن احتكرت نخبة ضيقة جداً الحكم والثروة واستبدت بالأمر كله. إذا لم يدرك الأخوة المسيحيون أبعاد الموقف وتعاملوا مع تلك الجرائم على أنها أداة للضغط على النظام وابتزازه إلى أقصى مدى واللجوء إلى الاستعانة بالخارج الذى بدأ يستجيب لتلك النداءات، فإن حجم الكارثة التى ستترتب على ذلك سيكون أفظع من الجريمة النكراء البشعة نفسها، لأن الحريق قد يمتد إلى الوطن كله و يتحول إلى طوائف متناحرة خاصة أن النظام لا عقل له ولا منطق لديه وليس لديه ما يقدمه من حماية حقيقية باعتراف الأمن نفسه الذى أعلن مسؤلوه أنهم لا يمكنهم بحال من الأحوال منع الجرائم الإرهابية، وقد صدقت الأحداث تلك الحقيقة، فأمن المجتمع مسئولية المجتمع كله، وإذا لم نشارك جميعاً فى تخفيف حدّة الاحتقان، ومنع الظواهر السلبية التى تكرس الطائفية وفى مواجهة النظام المستبد الفاسد جميعاً من أجل إصلاح شامل كامل يؤثر فى حياة المصريين جميعاً فلن نستطيع مواجهة تداعيات تلك الجرائم، وسيبقى المجتمع المصرى هشاً قابلاً للاختراق من داخله أو من خارجه، وسيزداد طابور اليائسين الباحثين عن جدوى لحياتهم فى وطن يهمشهم فلا يجدون سبيلاً إلا التجسس لحساب العدو أو الانتماء لتنظيمات عدوانية متطرقة إرهابية أو الانتحار اليائس مع أكبر قدر من الضحايا .. الخ. وهنا يأتى دور المسلمين جميعاً وخاصة التيار الإسلامى بتنوعاته المتعددة لاحتواء حجم الغضب الذى يزداد فى أوساط المسيحيين، ولعل زيادة أعداد المظاهرات وانتشارها من مكان لمكان يؤدى إلى إدراك كل مسلم لخطورة الموقف فهذا الوطن وطننا جميعاً، ولا يمكن شطب أحد فيه، وكما عاش المسلمون والمسيحيين لقرون عديدة، وبقيت المسيحية فى مصر التى بها أقدم كنائس العالم، فلا يمكن أن يتصور البعض بتطرف أو غلو أو فساد فى الرأى والفكر إمكانية إلغاء وجود المسيحيين فى مصر والشرق، أو تهميشهم أو معاملتهم بطريقة منافية لجوهر التعاليم الإسلامية التى عاشوا فى ظلها وشاركوا مع المسلمين فى صنع حضارتهم التى نفخر بها جميعاً. إذا فهم مسلم ما أن التزامه الدينى بالإسلام يقوده إلى مقاطعة جاره المسيحى وعدم إلقاء التحية عليه أو مبادرته بها وعدم تهنئته فى العيد أو عدم مواساته عند الأحزان أو زيارته كالمعتاد فإن هذا الفهم يجب أن يصحح من كل التيارات الإسلامية وعلى الأزهر أن يقود حملة لتصحيح المفاهيم الخاطئة التى تسربت إلى قطاعات عريضة من الملتزمين دينياً خاصة مع انتشار ما يسمى بالفكر السلفى الذى يعمق مثل تلك المفاهيم الحياتية ، وعلى الأخوة السلفيين أن يعيدوا النظر فى تلك الفتاوى وأن يدركوا حجم الخطر الذى يترتب على ذيوعها ومن الحكمة النظر فى المآلات التى أدّت إليها تلك الآراء. على كل العاملين للإسلام أن يدركوا أهمية احتضان الإسلام للمسيحيين ولليهود غير المحاربين وأن الغرب اللادينى الذى احتقر المسيحيين وهمشها فى الحياة العامة، واضطهد اليهود وأنشأ لهم دولة على حساب المسلمين فى فلسطين ليحولها إلى دولة دينية يريد خلق نزاعات دينية فى بلادنا التى عرفت التسامح الدينى على مر القرون، بسبب أن الإسلام يقر بوضوح { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } (البقرة: 285 ] ويقر بعلانية وشفافية { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿46﴾ } [ العنكبوت] ويجب أن يبدأ الإخوان المسلمون كأفراد وأسر وشعب فى العمل وفق خطتهم المعهودة فى حسن العلاقة والجوار والبر والقسط والإحسان الذى أمر الله به فى كتابه العيز { لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾} [الممتحنة] وأن يسترجعوا تاريخاً ناصعاً لمرشدهم المؤسس ولجماعتهم أثناء فترتها الأولى قبل كابوس الاستبداد فى علاقة جمعت الجميع على البر والعدل والمساواة، وكيف كان القسس يحضرون دروس الإخوان وكيف كان الإخوان يشاركون المسيحيين فى كل ما يهمهم من شأن، وكيف أعلن المرشد الراحل عمر التلمسانى رحمه الله عند خروجه من السجن بعد اغتيال السادات أن يطالب بإعادة البابا إلى موقعه فوراً بعد أن عزله السادات. هذا تاريخ يجب أن نعيد وقائعه من جديد فى علاقة تبدأ بزملاء العمل والجيران من المسيحيين، بتحيتهم ومواساتهم والوقوف بجوارهم فى شؤونهم الخاصة وتفهم حاجاتهم العامة واستيعاب أى موقف ملتبس من أحدهم والجدال بالحسنى كما أمر الله والبعد عن المزالق التى يمكن أن تؤدى إلى التوتر والانفعال. أما النخبة الفكرية والسياسية فعليها أن تدرك أن ركوب موجة الطائفية لن يفيد أحداً وسيضر بالوطن جميعاً، وأن استعداء الجموع المسلمة فى مصر والتى ازداد إيمانها بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، ويزداد عدد الملتزمين منهم بشعائر الإسلام ولو شكلياً سيكون بمثابة الكارثة لأن ردود فعل هؤلاء ستكون، فى ظل غياب الحريات وانسداد القنوات والتضييق على التيار الإسلامى المعتدل الوسطى والحرب على الدعاة المعتدلين لن يتوقعها أحد، وسيحولون بخطابهم الاستفزازى المتدينيين المسلمين إلى التطرف أكثر وأكثر، وفى نفس الوقت لن يستطيعوا كبح جماح التطرف المسيحى الآخر الذى لا يملكون إزاءه إلا السكوت. الإسلام برئ من كل متطرف يذكى نار الفتنة، والإسلام برئ من كل مجرم يعتدى على الدماء والأموال والأعراض المسيحية والمسلمة، والإسلام احتضن المسيحيين على مدار 1400 سنة، وهو قادر على احتضان كل المخالفين له فى الدين والرأى إلى آخر الزمان. المجتمع المصرى بات هشاً ضعيفاً بسبب غياب الحريات العامة، وخفوت الأمل فى المستقبل، والاستبداد والفساد، وضعف النخب وانقساماتها، وعلى الجميع إدراك حجم الكارثة التى يمكن أن تحدث فى المستقبل، والقيام بواجبهم لمنعها وإلا فإن الله سبحانه سيحاسب الجميع على تقصيرهم، وها نحن نرى الآن ما يحدث حولنا فى حوارنا فى اليمن والسودان، ومن قبله الصومال ولبنان، ثم الجزائر وتونس، وما العراق وأفغانستان عنا ببعيد. فلنقف جميعاً ضد محاولات زرع الفتنة فى بلادنا، بحكمة واعتدال وصبر وجلد، ولنحمى بلدنا جميعاً من مصير مجهول لا يعلمه إلا الله. على جموع الإخوان أن يدركوا أن المشروع الإسلامى لن يتحقق إلا إذا استوعب كل من عاش فى ظل الحضارة الإسلامية على مر القرون، وأن الإسلام فى عصوره الزاهية التى نريد استعادتها عرف التنوع الدينى العرقى والإثنى ولكلٍ مساهمته فى بناء تلك الحضارة ولم يعرف طوال تاريخه ما يُسمى بالنقاء العرقى أو الوحدة الدينية بمعنى طرد المختلفين دينياً من رحاب الأمة، وأن الأمة الإسلامية احتضنت الجميع بسماحة ومساواة فى الحقوق والواجبات، وأن الفرقة بين المتدينين زرعها الاحتلال ونجح أحياناً وفشل كثيراً .