في الفترة ما بين 1973 و1998 كانت تفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي الجناح العسكري لمنظمة (شين فين) في أيرلندا الشمالية تكاد تشل مراكز المدن البريطانية الكبرى بشكل شبه يومى..والى حدود كانت تذكر البريطانيين بأيام الغارات الألمانية فى الحرب العالمية الثانية ..لكنك ستدهش كثيرا حين تعلم أن كل الحكومات البريطانية المتعاقبة فى هذه الفترة كانت حريصة على تكون هناك دائما قنوات اتصال سرية بطبيعة الحال مع قادة ذلك الجيش. على مدار أكثر من عشرين عاما ورغم العداء التاريخى الكبير بين البروتستانت والكاثوليك ورغم كل الحملات الدعائية والإعلامية الهائلة ضد الجيش الجمهوري كان الأمل لا ينقطع أبدا فى وقف نزيف الدم هنا وهناك دونما كبر ولا غطرسة .. والناظر فى العقل السياسى الانجليزي حقيقة لا يملك إلا أن يعجب به بل ويسترشد به أحيانا كثيرا.. فى أكثر أوقات التاريخ تغيرا وتتطورا (الصراع مع الملك والكنيسة) كان ذلك العقل كامنا فى كل التطورات كل الوقت .. فلم يعدم الملك كما حدث فى فرنسا بل أبقوا على الملكية كلها بوضع دستورى الجديد فيما لا يكاد يكون للملك سلطة .. ولازال الملك هو رأس الكنيسة وهو (حامى الإيمان) فيما لا يكاد يكون هناك أى تأثير يذكر للكنيسة على مسارات الأمور كما كانت فى العصور الوسطى... ما اقصده هو طريقة ذلك العقل فى التفاهم والتوافق وعدم السير إلى أخر المدى فى تحقيق المطلوب إذ يكفى تحقيق (جوهر المطلوب)..ولعل ذلك يرجع تاريخيا إلى ذلك العقل المضيء فى تاريخ الفكر(الانجلو سكسونى) روجر بيكون(1214-1292م) والذى تأثر بأصول إسلامية _هو نفسه ذكرها_..فى مسألة الوسطية والمقاربة والتفهم .
لذلك كانت السياسة البريطانية أكثر عقلانية ورشدا من أن تترك لأمر مثل المسألة الايرلندية أن يتطور بعيدا عنها. وهوما كان من فتح مسارات التفاوض والاتصالات السرية مع أهم التشكيلات العسكرية للجيش الجهوري الايرلندي حتى تلك المنشقة على الجيش الأيرلندي و (الشين فين).. وهو الأمر الذي أثمر ثمرته وأتى بتبدلات سياسية عميقة و انتهى إلى اتفاق الجمعة الشهير عام 1998 ووضع حدا للصراع الدامي بينهما.
كان باستطاعة الجيش البريطاني مدعوما بكل أجهزة الاستخبارات البريطانية (أم آي 6) و (أم آي 5) أن يواصل ملاحقة عمليات الجيش الجمهوري وتسجيل نقاط عسكرية عليه وأنت فى النهاية أمام مايمكن تسميته (أمن قومى)...لكن ذلك وحده لم يكن يحدث كان المستقبل الذى يتشكل بتداعيات الحاضر هو ما يشغل بال القائمين على الأمر..وهذه كانت قناعة الاستراتيجيين في أجهزة الاستخبارات والتي ستشكل أحد أهم العوامل الضاغطة على صانعي القرار السياسي في الحكومات البريطانية ذاتها. في المقابل بدا الأفق العسكري والسياسي أمام الجيش الجمهوري نفسه مسدودا دون أى إيحاء بالأمل بأن مستقبل الخيارالذى اختاروه يقود إلى نتائج حاسمة لصالحهم. وهو ما يعنى بالنسبة إلى الطرفين الوقوع في حالة صراع مفتوح.. ليس بمقدور طرف حسمه.
حتى كان العاشر من إبريل 1998 حيث تم إعلان اتفاقية سلام بين الجيش الجمهورى الايرلندي و بريطانيا..ولم يتم تصوير الأمر فى السياسة البريطانية على انه خضوع لضغط الجيش الجمهورى وابتزازه وعملياته المتواصلة التى تخدش هيبة (الدولة) وتجرح سيادتها..ولم تخرج من (تجار الحرب) وكارهى الشعوب فى الإعلام أصوات الخراب صارخة وناعية على (الدولة) ضعفها وخيبتها فى إدارة الأزمة..بل كان هناك التفسير والشرح والمباركة لكل ما يحفظ الدم ويصون وحدة الوطن والأمة داعمين لتيار التفاهم.
تقدم الحالة الأيرلندية دروسا هامة للغاية لحالات صراع متعددة تتشابه معها ..رغم أن كل حالة بطبيعة الأمر لها ظروفها المختلفة وجوانبها المميزة. لكنه برغم التنوع واختلاف الظروف يبقى هناك جوهر أساسي يجمع معظم الحالات.. وهو استيعاب منطق الأمر الواقع وعدم الوقوع فى الأسر لحالة الشلل والتفكير العقيم بضرورة استمرار فاتورة الدم . الدرس الذي تقدمه الحالة الأيرلندية في المقام الأول هو (ضرورة التحدث مع الجانب الأخر) مهما كانت مسافة الخلاف ومهما كان سقف المطالب .
في معظم حالات الصراع الطويل غير المحسوم يتزايد ضغط التكاليف على الأطراف كلها وتضيق هوامش المناورة وبل وقد تفقد القضايا التي يجري الدفاع عنها شعبيتها وقيمتها لدى الناس.. ثم لا تلبث الأحداث أن تتحكم فى دفع نفسها بنفسها بل وتحديد المسار لصانعي السياسة وليس العكس للأسف الشديد . فيصبح الساسة تابعين للمنطق الذاتي لتطور الأحداث على الأرض وليسوا صانعين لها ويفقدون بالتالي أهم عنصر فى الموقف كله وهو (عنصر القيادة)إذ يتحولون عمليا إلى منقادين... القيادة الحقيقية هي التي تقف في لحظة جرأة حقيقية وشجاعة وطنية لتواجه المسارات العشوائية لتراكم الأحداث وترفض الانسياق الأهوج خلفها وتقرر تغيير المسار أو تعديله أو تحديه.
منطق (ضرورة وحتمية الحديث مع الخصم) يوفر على المجتمعات والأوطان وقتا وجهدا و دما كثيرا مهدورا بلا أى قيمة ..بدلا من الوقوع في منطق (الوضع القائم) وترسيخه بلا مبالاة مخزية.
ما أسهل أن تكتفي السلطة_أى سلطة_ وأجهزة استخباراتها فى الاعتماد على منطق (الدولة الكاسرة) التى تمتلك كل أدوات القهر والإخضاع والإذلال..دون التفكير الوطني الرشيد بالبحث فى إنتاج معادلة سياسية واجتماعية صلبة وناجزه..تنقذ الحاضر وتحمى المستقبل... وكنت قد كتبت كثيرا عن معاهدة فرساى بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) التى كان أخر سطر فيها هو السطر الأول فى الحرب العالمية الثانية(1939-1945م) وهو ما استوعبته أوروبا بعدها فى الحذر من (غضبة الضعيف) وكان مشروع مارشال وكان الحفاظ على كرامة الأمة الألمانية ..وهو نفس ما اتبعه (ماك ارثر) فى اليابان بعد هيروشيما وإعلان الاستسلام.. ويبقى الدرس البريطاني في التفاوض (السري) مع الجيش الجمهوري درس عميق ومهم لمن يريدون صون أوطانهم وحفظ دماء الناس..والذى يهتم بالأمور الكبيرة أبدا لا يهتم بالأمور الصغيرة.
فى الجزائر فهم الجميع_ بعد دفع الثمن غاليا_ أن الدم الذى ينزف له لون واحد.. وهو لون (ذاتيتهم الوطنية) فاتجه الجميع راضين تمام الرضا إلى مصالحة وطنية شاملة ..رغم أن وقف المسار الديمقراطى الذى حدث بإلغاء نتيجة الانتخابات وقتها هو عمل غير ديمقراطى وغير وطنى ..إلا أن مسار الأحداث دعي فيه داعى العقل الرشيد بفهم أوسع لطبيعة الموقف وخطورته ..فكان الاستجابة لهذا الداعى بكل ما تفرضه المسؤولية الوطنية العليا من واجبات الفرض...إلى حد أن أحد أكبر من هللوا للجيش على ما فعله (أمين الزاوى) وبعد أن كان يصف الإسلام بأنه يرعى (العقلية الإرهابية) لأبنائه منذ طفولتهم عن طريق طقوس مثل عيد الأضحى ..صار هو نفسه من يتحدث عن وحدة الوطن في (ظل الإسلام العظيم)...!!بعد أن كان يطالب بكل أشكال القسوة مع الإسلاميين الذين لا حق لهم فى الحكم حتى لو انتخبهم الناس .!!ولعلنا لا ننسى مواقف السياسة الخارجية الجزائرية التى اشتهرت (بدبلوماسية الوساطة والتوافق) فى المنطقة ..إلا أن جنرالات الدم والسلطة والنهب كانوا وقتها مسعورين تجاه (الدم الرخيص) دائما وفى كل وقت ..دم الإسلاميين .
ستذكرك التجربة الجزائرية التى كان لأغلب مثقفيها وكتابها نفس المواقف التى تراها الآن فى مصر..ستذكرك بكل (حفارى القبور)و(ناهشى الجثث) فى كل الأزمان .. كأنهم كما يقولون بصقوا فى أفواه بعض ..ستجد رشيد بوجدرة وواسينى الأعرج ومحمد بن شيكو وكل هؤلاء (الجوبلزات ) نسبة إلى جوبلزالذى كذب فى أذان الشعب الالمانى أكاذيب تكفى لتلويث بحار الدنيا .. ستجد مثلهم من (تجار الحرب )لدينا فى الفضائيات يحاربون فكرة(الصلح الوطنى) بشراسة مقيتة منتشين بظلال الحزن والموت الدائم ..ما يعكس خيانتهم لوطنهم ووحدته ومستقبل أجياله ..
الفيلسوف الألمانى (نيتشه) وصف دانتى صاحب (كوميدياالجحيم) بأنه ضبعا ينشد شعرا على القبور ..ماذا يكون قوله عن ناعقى الخراب فى فضائيات كل ليلة..؟