هذه حكاية قديمة، لم أكتبها من قبل، ولم أحكها إلا لقليلين، ولكنها ألحت علي هذه الأيام، لما رأيته من استسهال البعض في الكتابة على الإنترنت وغيرها وهم يخوضون في كل شيء دون تريث أو تأكد مما يخوضون فيه، فوجدت أنه فرض عليّ أن أحدثكم عما رأيت لا ما سمعت، وكل نفس بما كسبت رهينة. في تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا عام 1994، حيث كان الجدل دائرا حول رواية (أولاد حارتنا) للأديب نجيب محفوظ، وهل هي حلال أم حرام؟ وهل يجوز نشرها أم يجب على الحاكم المسلم منعها ومعاقبة ناشرها؟ أسئلة كثيرة كانت تدور في ذلك الوقت حول هذا المعنى بعد حصول الأديب الراحل على جائزة نوبل في الأدب، وظلت هذه القضية تشغل الأوساط الأدبية والدينية حينًا من الزمان، ثم تلاشت وتم السكوت عنها تمامًا، ككثير من قضايانا التي تأخذ جزءًا من أعمارنا ثم تنتهي دون حسم كأن شيئًا لم يكن، وكأن جدلًا لم يَقُم. في ذلك الحين أصدر الدكتور صلاح الدين سلطان كُتيبًا يهاجم فيه رواية أولاد حارتنا، ويحصي ما فيها من كلمات خارجة جارحة للشعور، ويقيّمها إجمالا بمعيار الدين الذي لا يبيح الفواحش من القول والفعل، وكنت قد فرغت من قراءة الرواية للمرة الثانية وأعجبت بها أيما إعجاب، فهي حقيقة من حيث البناء الأدبي عمل رائع ثري بالشخصيات والأحداث والتصوير الإبداعي المتميز والحبكة المحكمة، وهي رغم طولها تجعلك تواصل قراءتها ولا تستطيع أن تنفلت منها، وعندما قرأت نقد الأستاذ الدكتور صلاح سلطان أخذتني العزّة بالأدب؛ حيث هو مجال تخصصي الدراسي، وبينما كنت أقرأ كتيب الدكتور صلاح كنت أُعدّ في نفسي ردًّا على كل كلمة وعلى كل انتقاد يوجهه للرواية ريثما أنتهي من القراءة فأبدأ في كتابة ذلك الرد، ونويت أن أرسله للنشر في أخبار الأدب آنذاك، فلا شك أنها سترحب بنشره انتصارًا للأديب العالمي الكبير، وما إن انتهيت من قراءة الكتيب إلا وقد غلبني النوم فنمت على هيئتي ونيتي. كان ذلك في سكني بالقاهرة، فرأيتني قاعدًا في (فراندة) منزلنا الريفي في محافظة البحيرة، وكان لي صهر وأستاذٌ وقريبٌ قد مرّ على موته شهور، وكانت بعض الصحف تنشر له مقالات دينية، وهي إجمالا عن مكارم الأخلاق، فرأيته مقبلا من ناحية الغرب حيث مقابر القرية، ملتفًّا بكفنه، لا يظهر إلا وجهه، وقد أقبل عَلَيَّ مهتما واجمًا مسرعًا كأنه جاء في مهمة عاجلة، وكانت أسرتي حولي في (الفراندة) فلم ينظر لأحد منهم بما فيهم أختي (زوجته) بل قصدني أنا، ثم وقف قبالتي تمامًا، ثم قال مشيرا بيده بالحرف الواحد: (خلّي بالك يا إيهاب دول جايبين كل كلمة كتبتها؛ ورق قد كده –وأشار بيده من الأرض إلى صدره- وعمالين يسألوني: قلت دي ليه؟ وكتبت دي ليه؟) ثم التفت وانصرف متجها إلى حيث أتى إلى جهة المقابر. استيقظت من نومي مرعوبا وظللت فترة صاغر البصر مذهولا، أعيد مشهده وكلامه على ذهني وأمام عيني كشريط سينمائي مرات ومرات؛ مدركًا ما كنت مقبلا عليه من هول كبير، وجرم خطير، أنقذني منه بنصيحته، وأقسم بالله العظيم أني لم أكن أعرف أن سؤال الملكين قد يطول لشهور أو أكثر إلا من هذه الرؤيا، فقد كنت أظن أن هذا الأمر يستغرق دقائق معدودات، فسبحان الله العظيم. استجمعت إرادتي ونهضت من على فراشي وأنا أقول في نفسي: (وأنا ما لي وما لنجيب محفوظ وأولاد حارتنا..؟ سأنجو بنفسي ولن أخوض في هذا أبدًا). ثم قرأت بعد ذلك في تفسير قوله تعالى: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم 27) أن المقصود بالتثبيت في الآخرة هو تثبيت المؤمن في القبر عند سؤال الملكين إياه. وقرأت في تفسير قوله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه 124) قال أكثر المفسرين إنّ المعيشة الضنك عذاب القبر، وقرأت في كتاب العلامة القرطبي (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة) عن سؤال الملكين ما تشيب له الولدان. فاللهم احفظ ألسنتنا وطهر قلوبنا ولا تسلط علينا أقلامنا فنكتب سطرا ولا حرفا في الآخرة يسوؤنا.. اللهم آمين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.