ربما يعطي لنا العنوان انطباعا بأن هذا الكتاب كتابا عن التدين إلا أن من يقرأ الكتاب يجد أنه كتاب عن الإنسان ، عن الإنسان المعاصر وطرائقه في معرفة ذاته ومعرفة الواقع ، عن كيفية ممارسته لإيمانه في الواقع . الكتاب هو ( الحس الديني ) ومؤلفه ( لويجي جوسان ) الراهب والمفكر الإيطالي ( 1922 إلي 2005 ) يقدم المؤلف من خلال أسلوب يمزج الفنون والعلوم والآداب بالواقع والخبرة الشخصية طرحا فريدا عن المعرفة ، خاصة المعرفة الدينية ، يعتمد في كتابه بشكل أساسي علي الملاحظة الواقعية ، ملاحظة الناس في تعاملاتهم اليومية ، في أخلاقهم العامة أثناء مجريات الحياة العادية وليس فقط في أثناء الدرس الديني ، يقول ( إن قلة الملاحظة للواقع الحقيقي للناس وكثرة التفكير المجرد في ما يجب أن يكون تقود إلي الخطأ والعكس صحيح ) يقصد ببساطة أن علينا أن نكف عن رفع الشعارات البراقة والتحدث عن المثاليات ويظل كل ذلك للاستهلاك النظري فقط ويظل الواقع الحقيقي كما هو إن لم يكن يتردي ، وهو يضرب مثالا لذلك برجل يستعد للتصوير فينفخ صدره ويشد بطنه ويرسم ابتسامة جذابة علي وجهه لزوم الصورة ، وبعدها يعود للوضع المعتاد جسد مترهل وإرادة متراخية وتكشيرة . يؤكد أن (العقلانية والمنطق ) تفضي إلي الإيمان بالله والتسليم لقضائه والعمل بمقتضيات القيم العليا التي تسمو بالإنسان إلي المرتبة العليا بين المخلوقات ، ويؤكد أيضا أن (تقبل الآخر) وهو السلوك الذي يؤدي لاستقرار البشر وتفادي الصراع يحتاج أمران ، الأول هو تكوين يقين عن الآخر عن طريق التعامل المباشر معه وعدم الاستسلام للصور النمطية التي يفرضها الإعلام (مثلا إلصاق صفة الإرهاب بالمسلمين في الغرب ، ووصف المحجبات بالتخلف عن العصر ) ثانيا : بقدر ما يكون الفرد إنسانيا يكون قادرا علي قراءة حقيقة سلوك الآخر وطريقة حياته . ثم يتحدث بتفصيل جاد عن ( الالتزام ) فيقول إن الالتزام الحقيقي ليس الديني فقط بل الالتزام في كل مناحي الحياة ، الالتزام الديني بمعني ( أداء العبادات ) هو جزء من الالتزام الحقيقي يكمله المعاملات والسلوك والأخلاقيات والإخلاص في العمل . يقول : إن الحياة نسيج متشابك من الأحداث واللقاءات التي تستثير الضمير بما يحدث فيها من مشاكل ، فالحياة هي إذا شبكة من المشاكل التي تختبر تمكن الإيمان واليقين في قلب الإنسان ، كتاب أدهشني وحرك لدي الكثير من الأفكار ولكن هل هناك جديد حقا في كل ما قال ؟ لاجديد ولكن الاختلاف فقط في طريقة العرض ، فكل ذلك مما فطن إليه الصحابة رضوان الله عليهم منذ قرون ، ومن ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رجلا هل تعرف فلانا ؟ قال نعم وزكاه ، فسأله عمر : هل صاحبته في السفر ؟ قال : لا ، قال : هل تعاملت معه بالدرهم والدينار ؟ قال : لا ، قال : هل هو جارك الذي تعرف مدخله ومخرجه ؟ قال : لا ، قال : فلعلك رأيته في المسجد يميل رأسه يمنة ويسري ؟ قال : نعم أراه في المسجد ، فقال له : اذهب فإنك لا تعرفه . ما معني هذا ؟ معناه أن الإنسان في المسجد أو في أثناء الدرس الديني أو الكلام عن الدين ، يكون في حالة إيمانية ملائكية خاصة ثم يعود لممارسة حياته اليومية المعتادة التي يجب أن يتسلح فيها بخشونة أهل الدنيا ، فأي الحالتين هو الذي يصلح مقياسا للحكم عليه ؟ الحالة الأولي هامة وهي الأساس الذي تبني عليه الشخصية المسلمة ، وهي التي تهذب الخلق وتنهي عن الفحشاء والمنكر وتحض علي مكارم الأخلاق ،أما الحالة الثانية فهي اختبار للأولي لنعرف هل آتت أثرها المنشود أم لا . الإنسان في حياته اليومية يتحرك ويتصرف وفقا للمعايير السائدة في المجتمع فهو يعمل ويتحرك ويبيع ويشتري ويستعمل المواصلات والمرافق العامة ولكن يظل ( الحس الديني ) مصاحبا له في كل ذلك وهذا ما قصده الفاروق عمر رضي الله عنه و أرضاه ، الحس الديني هنا جزء ثابت في شخصية المسلم وليس مجرد حالة مؤقتة ، وهو رياضة ظهر أثرها وليس نفخ صدر لزوم الصورة . [email protected]