بدأ في الفترة الأخيرة، النُّزوع نحوَ التفكير في المستقبل، يُهيمن على اهتمامات النُّخبة التونسية، أكثر من أي وقت مضى. ولا يعود ذلك إلى الظرفية السياسية التي تمُر بها البلاد والتي جعلت من مستقبل نظام الحُكم حديث الجميع، وإنما أيضا، بالنظر إلى حجْم التحوُّلات التي يمُرّ بها المجتمع التونسي على أكثر من صعيد، مما يدفع بالباحثين والفاعلين السياسيين والإجتماعيين، بمَن في ذلك، الماسكين بالسلطة وأصحاب القرار في مختلف القطاعات، إلى التساؤل عن مآل هذه التحولات. في هذا السياق، شكّلت جمعية "نادي محمد علي للثقافة العمالية"، باعتبارها منظمة غير حكومية، فريقا من الباحثين المعروفين بجدِيَّتهم والمتنوِّعين في اختصاصاتهم، وذلك للنظر في "آفاق تونس سنة 2040" واستكشاف ملامِح هذا البلد المتوسطي، الذي تعاقبت عليه ثقافات ودول وحكومات، نظرا لأهميته الإستراتيجية وقدرة شعبه على التكيّف مع المتغيِّرات؟ من بين مكوِّنات هذا الفريق الذي يشتغل منذ أكثر من نصف سنة، عددٌ من المؤرّخين كُلِّفوا بتحليل التحوّلات التي طرأت على طبيعة العلاقة بين الدِّين والدولة في التاريخ التونسي المعاصر، وتحديدا منذ قدوم العثمانيين في بداية القرن السادس عشر، وصولا إلى مرحلة ما بعد الإستقلال. فكانت حصيلة هذا الجُهد، أربع نصوص تاريخية قام بها مؤرخون حاوَلوا استِنطاق المعلومة عبْر حِقبٍ متتالية. "فك الإرتباط بين اللائكية والحداثة" الشخص الذي قام بوضع مقدِّمةٍ لهذه النُّصوص، لم يكن مؤرِّخا، وإنما ينتمي إلى حقل العلوم الاجتماعية، وهو الأكاديمي المعروف عبد القادر الزغل، الذي يحاول باستمرار أن يسير ضدّ التيار. لهذا، اعتبَر أن المدخل لفهْم إشكالية العلاقة بين الدِّين والدولة في مجتمع إسلامي مثل تونس، يتمثل في فكّ الارتباط بين اللائِكية والحداثة. فهو يعتقد بأن اللائكية ليست سوى "نزعة فرنسية معادية للكنيسة، تعود إلى عصر الأنوار، وذلك من قبل أن يتِم اختراع سياسة تَعتبر نفسها لائكية". وانطلاقا من رصده للتحوّلات التي شهِدها المجتمع البريطاني في القرن السابع عشر، انتهى الزغل إلى القول بأن المرحلة التأسيسية التي تمخَّضت عنها الحداثة، قامت على تداخل السياسي والدِّيني، وليس على القطع بينهما، وبالتالي، فإن الدِّين، حسب اعتقاده، كان يشكِّل بُعدا من الأبعاد التي ساهمت في عملية المخاض، التي أدّت إلى ميلاد الحداثة. "الدولة المُستوردة" على الصعيد التاريخي، ذكَّر المؤِّرخ عبد الحميد هنية، أن العلْمنة في تونس قد بدأت بشكل مبكّر مع إقامة ما سمّاه ب "الدولة المُستوردة"، وذلك عندما استنجد سكان الحاضرة في تونس بالأتراك ومكَّنوهم من الحُكم ووظفوهم لصالح نمطهم المدني، ذي الخصوصية المحلية، حين فرضوا على العثمانيين لُغتهم وأذواقهم. وفي ذلك العهد، وضعت السلطة السياسية مسافة بينها وبين المرجعية الدِّينية وبدأت تتركّز عملية الإدارة السياسية للمجال الدِّيني، وذلك بجعل الدِّين في خدمة مصالح وحاجيات السلطة، مما مكّن الأتراك في القرن السابع عشر، من تأسيس مركزية لسُلطتهم السياسية، بعد خضوع مختلف الشخصيات الدِّينية، ذات النفوذ المرجعي، لإرادتهم، بمن في ذلك شيوخ الزوايا الصوفية "أبو غيض القشاش مثالا". كما يعتقد صاحب البحْث أن الفرد المواطن في تونس، ولِد عن طريق الدولة لضبْط علاقته بالمجتمع. ومنذ القرن الثامن عشر، أصبح كل السكان مُسجَّلين في دفاتر تُحدِّد هُوياتهم ضِمن حدود الدولة. وبناءً عليه، يرى هنية بأن "الشعب التونسي هو مجموعة أفراد صنعتْهم الدولة ولم يصنعهم الدِّين". "عهد الأمان" أما المؤرخة فاطمة بن سليمان، فقد توقَّفت عند الكيفية التي تَعامَل بها علماء الدِّين من مضمون "عهد الأمان"، فلاحظت أنهم لم يكونوا مقتنعين بمُحتواه، وأنه عندما طَلب منهم الباي أن يحدِّد كلّ واحدٍ منهم موقِفه كتابيا من مختلف بنود العهد، اعتبروا الجوانب المتعلقة بالقضاء وبوضعية الأقليات، جاءت صيغتها مخالفة للشرع. وكي لا يتحمَّلوا أي مسؤولية، بحث كل واحد منهم عن عُذر لينسحب من لجنة الصياغة وتركوا الأمر للسياسيين، الذين أنجزوا المهمّة، وبذلك تمّت الإصلاحات بدون مشاركة أو دعْم العلماء. الإسلام :"حامل المخيلة الجماعية" بعد دخول الاستعمار وبداية تشكّل أطُر الحركة الوطنية، برز الإسلام كأيديولوجيا، باعتباره "حامل المُخيّلة الجماعية"، حسب تعبير المؤرِّخ رؤوف حمزة، الذي تحدّث عن "عودة الإسلام في دوره الحيوي والجهادي". هنا، اتخذ الإسلام شكل "الملجإ" للمجموعة الوطنية وأيضا باعتباره "طريقة لتنظيم حياتهم"، وذلك من خلال الاجتهاد ومقاومة الانحطاط، وهو يعتقد بأن الإسلام كان أساسيا في مرحلة بناء الحركة الوطنية، التي قامت بتوظيف الدِّين في اتِّجاه عِلماني، حيث تم "إضفاء الطابع الوطني أو القومي على الثقافة الدِّينية". ويختم الباحث بالقول أن "الخطر لا يكمُن في الإسلام، وإنما في الشعبوية التي جرفت كلّ شيء وأخضعته لمنطِقها الخاص". "بورقيبة، المستبد المستنير" في مرحلة الاستقلال وتأسيس الدولة، لعب الحبيب بورقيبة، الرئيس التونسي الراحل دور "المُستبِد المُستنير"، حسب تعبير المرحوم محمد الشرفي، حاول أن يتدخَّل في كل شيء، بما في ذلك تأويل الإسلام وِفق نظرته للحداثة. لقد اكتسب الخطاب "البورقيبي" طابعا مُزدوجا، حيث لاحظ المؤرِّخ هشام عبد الصمد أن بورقيبة السياسي تقمَّص شخصية العالِم المجتهد والموجّه للمؤمنين. وعلى هذا الأساس، كان بورقيبة يرفض أن يوصف بأنه لائكي راديكالي، واعتبر نفسه صاحب قول في المسائل الدِّينية، لكنه في الآن نفسه، كان مُصِرا على إزاحة فئة العلماء وإبعادهم عن القيام بأي دور سياسي. وفي إشارة ذكية، لخّص فيها المفارقة التي عاشها بورقيبة منذ تولِّيه السلطة، لاحظ عبد الصمد أن مؤسس الدولة التونسية حاول من جهة أن يُخضع التجربة المحمدية لخطاب دُنيَوي يزيل عنها كل قداسة، لكنه في المقابل، عمل على أن يقدِّم تجربته السياسية بخطاب ممْزوج بكثير من القداسة. "الدين والدولة لم ينفصلا كليا" بالرغم من أن الأوراق التي قُدِّمت ضِمن هذا المحور أعدّت في سياق مشروع مستقبلي يهدف إلى تحديد الملامح التي ستكون عليها تونس في أفُق سنة 2040، إلا أن أصحابها لم يتوقَّفوا عند الحاضِر ولم يشيروا إلى مستقبل العلاقة المُحتمَلة بين الدِّين والدولة خلال المرحلة القادمة، ربما لكوْن المؤرِّخ يعالِج الماضي ولا يَعنيه الحدَث اليومي أو ما ستؤول إليه الأوضاع، لكن مع ذلك، فإن أصحاب هذه الأوراق قد أجمعوا على أن الدِّين والدولة لم ينفصلا كُلِيا في التجربة التحديثية التونسية. بمعنى أن الدولة لم تقطع صِلتها بالعامل الدِّيني، ولكنها في الآن نفسه، لم تسمح له بأن يستقِل بنفسه أو يتولى قيادة الدولة. لقد عملت الدولة لأكثر من ثلاثة قرون على توظيف الدِّين لصالح مشروعها ودعم شرعِيتها، واستمر ذلك حتى مع المرحلة "البورقيبية"، رغم مواقف الرجل الراديكالية. "المصالحة بين الدين والدولة" لقد التزم المؤرِّخون بدورهم الطبيعي، أي دراسة ما حدث في الماضي البعيد والقريب، ولم يقتربوا من الحاضر، الذي أعطى نفَسا جديدا للعلاقة بين السياسي والدِّيني، وذلك منذ تمّ رفع شعار ما سُمي ب "المصالحة بين الدِّين والدولة"، على إثر إزاحة الرئيس بورقيبة عن الحُكم. هذه المصالحة التي أحدثت يومها انقساما داخل النُّخب، تجسِّد في عرائض متضادّة، كما أنه لا يزال يثير قلق الأوساط العِلمانية في تونس، خاصة بعد إطلاق أول إذاعة دينية والسماح بإنشاء "بنك لاربوي" في البلاد. وبالرغم من أن العداء لا يزال مستحكما بين النظام والإسلاميين، وهو ما يفسِّر تجدّد الحملة ضدّ المحجَّبات في مطلع السنة الدراسية وتشديد الرقابة على الشباب المتديِّنين، إلا أن هناك مَن يعتبر بأن قيام تحالُف بين الإسلاميين والسلطة أو على الأقل شق من هذه السلطة يبقى احتمالا قائما، وهو ما يُؤرق أوساط شق من العِلمانيين على الأقل. "قراءة الإسلام وليس التخلي عنه" المؤكد أيضا، أن أغلب المجموعات السياسية التونسية، أصبحت تتجنَّب الدخول في اشتباك علَني مع الإسلام وتعلن من مواقعها الأيديولوجية المختلفة، بأن الدِّين جزءٌ أساسي من الهُوية الوطنية. وكما قال السيد محمود بن رمضان، أستاذ جامعي في الاقتصاد وناشط حقوقي وأحد قياديي حركة التجديد: "إن المعركة الثقافية والسياسية حاليا، تتمحور حول قراءة الإسلام، وليس التخلي عنه". أما فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين الدِّين والدولة في تونس، فستُحدِّدها بالتأكيد عوامِل عديدة، من بينها مستقبل النظام السياسي ومآل الفرز الذي ستخضع له النُّخب الحاكمة، وكذلك التشكّل الجديد الذي ستعرفه القِوى السياسية، ومن بينها ساحة الإسلام السياسي المُقدِمة على عديد من المتغيِّرات الهيكلية، وأخيرا، التعرف على ما إذا كانت تونس متَّجهة نحو تعميق الممارسة الديمقراطية أم أن معارضتها ستشهد مزيدا من الضعف والتهميش؟ المصدر: سويس انفو