صورة حية من الزمن الجميل ها نحن أولاء فى منتصف شهر نوفمبر من عام ألف وتسعمائة سبع وعشرين ، ومن داخل بيت عريق من بيوتات مدينة بلبيس خرجت نفسُ ُ للحياة ، إذ ولد فى هذا البيت وفى هذا اليوم وليدُ صغير شديد النحافة سيصبح فى مستقبل الأيام أحد أعلام مصر ورموزها فى عالمى السياسة والقانون ، نزل هذا الوليد للحياة وهو يحمل قدره الذي قدّره الله له وعليه ، ثم ستكون حكمة الله سبحانه وتعالى حين ينتهي الأجل ويفرغ العمل . ورغم أن بكاء الصغير إختلط بضحكات مستقبلية ، إلا أنه لم يلحظ أحد أن الأب جلس ساهماً فى إحدى زوايا المنزل ، إذ ربما كان يستشعر أن الأقدار لن تمهله حتى يرى هذا الوليد وقد شب يافعاً. وبعد عشر سنوات كوامل يتيتم الولد النحيف – وقد أصبح صبياً – إذ مات أبوه وهو بعد صغير ، وكان على الصبى أن يحمل على كتفيه مسئولياته ومسئوليات إخوته الذين ولدوا من بعده. وهكذا مرت السنوات الأولى على الصبى محمد علوان إبن المرحوم محمد عبد العزيز علوان. ورغم أن غياب الأب من حياة الصغير قد خلف فى نفسه مسحة من الحزن وشعورا مضنيا باليتم حتى أنه ظل يعيش بإحساس اليتيم عمره كله ، إلا أن شعور اليتم هذا ترك فى وجدانه آنذاك قدراً من الحكمة ، التى ساست طريقه فيما بعد ، وأنضجت عقله وهو بعد غلام. وكان من شأنه أن إلتحق بالمدرسة الثانوية بمدينة بلبيس وكانت علامات النبوغ قد ظهرت عليه فأصبح محط إعجاب من أساتذته ، وموضع فخر من أهله ، ومحل زهو أو حسد من أقرانه. ولم يمنعه نبوغه من الإلتحاق بركب الحركة الوطنية المصرية آنذاك ، فعُرف قائداً فى مظاهرات المدارس ، معارضاً شديد المراس للإحتلال الإنجليزى ولعصابات الصهاينة التى كانت قد بدأت تتوافد على أرض فلسطين الحبيبة. ونال بسبب وطنيته ما نال ، إذ تم فصله من مدرسته لمدة عامين متتالين ولم يمنعه هذا الفصل من مواصلة قيادته للحركة الطلابية الوطنية بمدينة بلبيس فاختلط بكافة الحركات الوطنية التى كانت تموج بها مصر ، وتعرف على الإمام حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين وأعجب به أيما إعجاب إذ رأى فيه حسن الفهم وسلامة المنطق ونصاعة البيان . [ وقد سنحت لىّ الظروف أن أسأل الأستاذ محمد علوان عن رأيه فى حسن البنا فقال ألخصه فى كلمتين .. عبقرية التأثير وعُلُوِّ الهمة ] إلا أنه سرعان ما اختلف مع الإخوان المسلمين بسبب القيود التنظيمية التى تضعها الحركة وتسوس بها أفرادها ، وقد كان محمد علوان هو من هو فى البحث عن الحرية فلم يقبل أن يكبل نفسه بقيود التنظيمات الحديدية . ومن بعد الإخوان إنخرط علوان في الحزب السعدي إذ التحق بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول وهناك تعرف على السعديين فأصبح رمزاً من رموزهم وعلماً من أعلامهم. تراه وهو فى كلية الحقوق منتظماً فى محاضراته متابعاً لأساتذته الدكاترة /حامد باشا زكى والسعيد مصطفى السعيد بك وغيرهم من عمد القانون وشراحه ، وتراه فى أروقة الجامعة وأفنيتها وهو يقود المظاهرات ويستحث زملائه على الإضراب وعلى الخروج للشارع للتعبير عن رفضهم لكافة أشكال الإحتلال ، وكان رفيقه الحميم فى قيادة المظاهرات الطالب حسن دوح أحد قادة الطلبة الإخوان بالجامعة – والصحفى الكبير فيما بعد والذى توفى منذ سنوات قليلة – كما كان يرافقه فى قيادة المظاهرات أيضاً الطالب محمود أبو شلوع – وهو من قادة طلبة الإخوان وقتها – وما أن حل عام 52 حتى تخرج محمد علوان من كلية الحقوق حيث إلتحق فى العام نفسه بمهنة المحاماه تلك المهنة التى عشقها صغيراً وأمضى عمره فى محرابها لا يلوذ بسواها ولا يتساند بغيرها فكان أن التحق بمكتب المحامى ذائع الصيت عبد الكريم بك رؤوف أحد رموز مصر ونبغائها فى القانون المدنى ، وشهد هذا المكتب سنوات من عمره حيث تزامل فيه مع المرحوم أحمد شنن نقيب المحامين بالقاهرة فيما بعد ، وما أن مرت أشهر عديدة حتى أثبت علوان نبوغه فى المحاماه فأسند إليه عبد الكريم رؤوف أمر إدارة المكتب وتدريب المحامين الوافدين الجدد فكان أن تدرب على يديه الأستاذ/ فتحى عبد العزيز رحمه الله الشقيق الأصغر للعلامة محمد كمال عبد العزيز ، والمرحوم / يوسف كمال والذى أصبح فيما بعد أحد قيادات حزب العمل وعضواً بمجلس نقابة المحامين ورئيساً لقطاع الشئون القانونية بمرفق مياه القاهرة ، والمرحوم إبراهيم درويش أحد كبار المحامين فى مصر بعد ذلك ، والأستاذ/ فوزى الإبراشى المحامى الشهير وأحد الدبلوماسيين البارزين فى وزارة الخارجية فيما بعد. وفى هذه السنوات – وبعد قيام الثورة – كان مكتب عبد الكريم رؤوف مركزاً إشعاعياً من مراكز الثقافة والقانون فى مصر وكان يتردد على المكتب لزيارة صاحبه المرحوم المستشار أحمد كامل والذى كان نائباً لرئيس محكمة النقض آنذاك وقد كان فيما مضى أحد تلاميذ عبد الكريم رؤوف تتلمذ على يديه واستقام عوده في رحابه ، وإذ رأى المستشار أحمد كامل المحامى الشاب محمد علوان فانتبه إلى نبوغه والتفت إلى تفرده وسط أقرانه ، فأخذ هذا المستشار الكبير يلح على هذا المحامى الشاب كى يلحقه بالقضاء ، قاضياً أو وكيلاً للنائب العام ، إلا أن الشاب محمد علوان وقد فتنته المحاماة فقد رفض أن يغادرها لغيرها حتى ولو كان غيرها هى منصة القضاء ، إذ كان يوقن أن المحاماة ليست فى حقيقتها مهنة ولكنها رسالة ، ولا يحمل الرسالة إلا الرسل أصحاب الهمة العالية والطموح الباذخ – وهى أمور تشق على الناس ولا تطيب نفوسهم بها – . ولم يفت محمد علوان أن يتداخل مع عبد الكريم رؤوف تداخلاً يومياً علّه يلتقط منه سر هذه المهنة .. أو بالأحرى الرسالة ، وكان من تداخله أن تشارك مع عبد الكريم رؤوف فى إعداد موسوعة قانونية عن القانون المدني ومن وقتها شغف محمد علوان بالتأليف فأخرجت له المطابع العديد من المؤلفات القانونية مثل موسوعة النقل البحرى ، ولائحة بدل السفر، وموسوعة شركات القطاع العام وغيرها ، كما أخرجت له المطابع عدة مؤلفات إسلامية مثل حقائق إسلامية وافتراءات غريبة وانتشار الإسلام وتحرير المرأة وغيرها. ولأن السياسة إختلطت فى دماء هذا المحامى الشاب بالمحاماه فلم يكن غريباً أن يخوض إنتخابات المجلس المحلى لمدينة بلبيس – مدينته الصغيرة – ليصبح على مدار سنوات وكيلاً للمجلس المحلى بها من عام 1962 إلى عام 1969 وساهم إذ ذاك فى المشاركة فى إعداد قوانين المحليات ، ومن المحليات إلى التعاونيات حيث أصبح علوان مستشاراً قانونياً للجنة التعاون وأمانة الفلاحين المنبثقة من اللجنة المركزية للإتحاد الإشتراكى من عام 1968 إلى عام 1973 ، وحفلت الصحف بالعديد من المقالات التى كتبها هذا المحامى النابغ متعدد المواهب عن التعاونيات وقد سنحت له الظروف وقتها فى المساهمة فى إعداد قوانين التعاونيات ، وأصبح دوره وسط الحركة التعاونية غير منكور بل أصبح رائداً من رواد التعاونيات فى مصر و وقد شهدت قاعة محكمة جنايات الجيزة إحدى مرافعات علوان الشهيرة حيث كان يترافع فى بداية الثمانينات عن قادة الإتحاد التعاونى الزراعى والذى شجر بينهم وبين أنور السادات خلاف مستحكم فأحالهم بجمعهم إلى المحاكمة ، إلا أن مرافعة علوان كان لها أبلغ الأثر فى صدور حكم البراءة. ورغم أن محمد علوان كان سجله بارزاً فى القضايا المدنية إلا أنه لم يُعرف فى قاعات الجنايات لذلك صاح أحمد الخواجة – رحمه الله – فى وجه محمد علوان بعد مرافعته فى قضية الإتحاد التعاونى الزراعى قائلاً له .. لقد فقتنا جميعاً يا علوان ظننا أن إبداعك سيكون فى المذكرات فإذا به يكون فى المرافعة ولشغفه بالإدارة وعلومها أصبح عضواً بخريجى معهد الإدارة العليا من عام 1966 وعضواً بخريجى القادة الإداريين من عام 1967. وما أن حل عام 1962 حتى أصبح محمد علوان مستشاراً قانونياً لشركة قها للأغذية المحفوظة ، ولأنه تعود على النبوغ وتعود النبوغ عليه فكان أن لفت الأنظار وأثار انتباه قادة الحركة الصناعية في مصر آنذاك فأسندوا إليه أمر رئاسة إدارة العلاقات الصناعية بالشركة بجانب مسئولياته كمستشار قانونى لها. ويذكر التاريخ أن الصلة قد توثقت بين محمد علوان والمرحوم مصطفى البرادعى نقيب المحامين الأسبق حتى انه عندما أخرجت المطابع موسوعة علوان القانونية عن النقل البحرى أهداها – كما ذكر فى الموسوعة - إلى نقيب النقباء مصطفى البرادعى , وكان من الحتمى على رجل هذه بضاعته أن يصبح عضواً لمجلس نقابة المحامين بدءً من مجلس 1969. ورغم أن نقيب المحامين فى هذا المجلس كان هو المرحوم احمد الخواجة ورغم أن علوان كان وقتها مختلفاً مع الخواجة أيما إختلاف مؤيداً للنقيب البرادعى ، إلا أن هذا الإختلاف لم يمنعهما من التعاون لمصلحة المحامين والمحاماة. وجاءت سنوات 1971 حيث أجريت إنتخابات جديدة كان النقيب فيها المرحوم مصطفى البرادعي ونجح علوان للمرة الثانية فى عضوية المجلس ، وقد عُرف محمد علوان كمعارض صلب للرئيس السابق أنور السادات حتى انه تعرض لعزل سياسى إذ أسقطت عنه عام 1973 عضوية مجلس نقابة المحامين بسبب أن الحكومة ارتأت وقتها إسقاط عضوية الإتحاد الإشتراكى عن بعض المثقفين والنقابيين والصحافيين – وكانت عضوية الإتحاد الإشتراكى هى جواز المرور لعضوية كافة المجالس – وكان من ضمن من أسقطت عنه هذه العضوية محمد علوان وأحمد نبيل الهلالى وعبد العظيم الجزار ومن الصحافيين أحمد بهاء الدين وغيرهم كثير ، إلا أنه فى العام التالى أسقط القانون هذا الشرط فعادت العضوية مرة أخرى لمحمد علوان وعاد عضواً بمجلس نقابة المحامين. وقد آثر محمد علوان أن يستقيل من مسئولياته فى شركة قها ويتفرغ لمكتبه فجاءت حقبة السبعينيات لتشهد أزهى فترات مكتبه حيث تتلمذ على يديه مختار نوح المحامى الإسلامى الشهير وأمين صندوق نقابة المحامين السابق وصابر عمار أحد أقطاب الناصريين وعضو مجلس النقابة السابق وهو حاليا أمين مساعد اتحاد المحامين العرب، وسمير صبري أحد أبرز محامى مصر فى القضايا التجارية .. لتأتى فترة الثمانينات لتشهد تخرج العديد من المحامين من مكتبه مثل عبد الوهاب سليمان المحامى الشهير ، وثروت الخرباوي كاتب هذه السطور ، والسيد على حامد مدير عام الإدارة القانونية بالبنك الأهلي وماهر أنور مدير الإدارة القانونية ببنك مصر إيران ، ونجلاء كمال مدير الإدارة القانونية بإتحاد الإذاعة والتلفزيون وإيفا هابيل المحامية التي أصبحت أول عمدة في تاريخ مصر ثم نالت عضوية مجلس الشورى بالتعيين ، وعصام سلطان أحد مؤسسي حزب الوسط الجديد وغيرهم مما لا يستطيع المجال أو الوقت حصرهم إذ تعدوا المئات. وفى غضون الثمانينات يشارك محمد علوان فى القضية الشهيرة التى كانت تطالب بعودة حزب الوفد الجديد وإذ صدر الحكم بذلك أصبح علوان عضواً بالهيئة العليا للوفد ، وكان صاحب إتفاق التنسيق الذى تم بين الإخوان المسلمين وحزب الوفد عام 1984 ... ثم أصبح هذا السياسي الأريب مساعداً لرئيس الحزب. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن إتحاد المحامين العرب ما زال يذكر صولات وجولات محمد علوان أحد مؤسسي هذا الإتحاد وأمين صندوقه لسنوات طوال وقد آثر علوان أن ينسحب بإرادته من عضوية المكتب الدائم للإتحاد ليتيح الفرصة لأجيال جديدة تربت على يديه كى تأخذ فرصتها ومجالها. ليس هذا فحسب بل إن نقابة المحامين مازالت تذكر أن محمد علوان – وكان أكثر الأعضاء شعبية وأمين صندوق النقابة – أحجم عن خوض الإنتخابات بدءً من عام 1989 عندما رأى أن الحال تبدل وأن المصالح الشخصية أضحت هى السمة الغالبة التى تتحكم فى أهواء الناس ورغم أن علوان تعرض لضغوط شديدة من النقيب أحمد الخواجة – رحمه الله – إلا أن علوان رفض قائلاً إن الزمن أصبح غير الزمن وتنبأ علوان وقتها بنبوءة صدقت فيما بعد إذ قال " ستمر النقابة بأيام حالكات ". وبعد سنوات من العمل والجهاد والصدق والتضحيات والفشل والنجاح فرغ الأجل ، فمنذ أيام قليلة صعدت روحه إلى مولاه بعد رحلة طويلة مع المرض وبعد ابتلاء قدّره الله له أو كافأه به كان هذا الابتلاء هو موت ابنه الأكبر أحمد الذي كان قرة عينه ... لم يكن هذا هو الابتلاء الوحيد الذي انقض عليه ، ولكنه مر بأمور ومرت به أشياء لو واجهها أعتى الرجال وأشدهم بأسا لخر صعقا ولكنه واجه كل ما مر به بقلب مؤمن ونفس راضية ووجه مبتسم وحين كنت أطيب خاطره في إحدى المحن ابتسم وقال لي لا تجزع فإن كل شيء بقضاء وهل يقع في ملكه إلا ما يشاء ؟ هذا هو محمد علوان رحمه الله صاحب المواقف المشهودة والتي صدع فيها بكلمة الحق وأخلص النصح لأقرانه ولتلاميذه فحق لأحد التلاميذ أن يسطر هذه السطور – وهى قليلة – معترفاً بفضل هذا الرجل عليه وعلى غيره فى زمن عز فيه الوفاء.... اللهم ارحمه رحمة واسعة وأكرم نزله .