الهجرة تعني الترك والارتحال، ومن الناس من يهاجر بحثا عن الرزق ومستلزمات الحياة، ومنهم من يهاجر للتنزه والتمتع بما في الكون من صنع الله..ففي هذه الهجرة يرتحل الإنسان ببدنه من بلد إلى بلد،وهذا النوع من الهجرة يشترك فيه الجميع،الإنس والطير ،فالطيور تهاجر من مكان إلى آخر تغدو خماصا وتروح بطانا،وتهاجر بحثا عن مناخ ملائم للعيش والرزق،وهذه الهجرة تعتمد اعتمادا كليا على حركة الإنسان وجهده وما يبذله من مساع،وهذه الهجرة أيضا يشترك فيها الأحرار والعبيد.. ولكن هناك هجرة ينفرد بها الأحرار وهي هجرة من نوعية خاصة،يترك الإنسان فيها كل ما يملك متوجها بكليته إلى الله ورسوله وهذه هي هجرة العزة والكرامة..يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ..والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوِله وهذه ..هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل".فهجرة الأحرار ينشغل أصحابها بما يرضي الله ورسوله،تتسم هجرتهم بمعاداة الشيطان،ومجاهدة النفس والبعد عن الإثم والعدوان.يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "الهجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان، وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان؛ لما فيها من إرضاء الرحمن وإرغام النفس والشيطان". هجرة الأحرار مرادها وهدفها مخالفة الهوى الذي يضل عن سبيل الله... والتحرر من سجن البدن وشهواته ودنس الدنيا وأهوائها إلى الملكوت الأعلى، هجرة الذنوب والمعاصي والآثام والبدع إلى فعل الخيرات وإلى حسن المتابعة. هجرة الأحرار هي الفتح المبين؛لأنها الهجرة الكبرى،هجرة الجهاد والنية،تحقيقا لقوله- صلىى الله عليه وسلم- :"لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". هجرة الأحرار تعني الفداء والعطاء والتضحية،بتقديم الأنفس والأموال نصرة لله ودينه ولعباد الله المؤمنين،ونصرة الحق وأهله.. هجرة الأحرار باقية إلى يوم القيامة،لأنها هجرة لا ترتبط بزمن ولا مكان ولكنها الهجرة التي ليس لها إلا مقصد واحد وهو إرضاء الله وتحقيق الاستخلاف في الأرض المتمثل في تحقيق العبودية الكاملة لله،وتعمير الكون بمنهج السماء،ومن يتخلف عن هذه الهجرة أو يقطن بأرض الاستضعاف التي لا توفر له الحياة الكريمة – حياة الأحرار- أو لا يستطيع أن يعيش بروح هذه الهجرة فإنه ظالم لنفسه ؛لأنه رضي معيشة العبيد الأذلاء:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولَئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً "(النساء: 97).فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم . بل يجبونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة ، والفرصة قائمة:" ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟!". . إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . . حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم ..وهنا تأتي النهاية المخيفة لمن رضي بأن يعيش ذليلا في أرض الذل يدفع الثمن من عقيدته ودينه :"فأولئك مأواهم جهنم ، وساءت مصيراً ". .ولكن القرآن الكريم يستثني من لا حيلة لهم من الشيوخ الضعاف ، والنساء والأطفال؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته . بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار :{ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفواً غفوراً } . . هجرة الأحرار هجرة ربانية تتوجه بكليتها إلى الله ورسوله تفتح الآفاق والرحمات الدنيوية والأخروية:"وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" )النساء:100 ). فالأحرار يتمسكون بالإسلام وينتقلون به من موقع إلى موقع اعتقادا وقولا وعملا ومعاملة وأخلاقا وتوكلا ويقينا بالله وبما عنده – سبحانه- في خزائنه، والمهاجر الحر لا يزال في ساحة الدعوة والجهاد .. فإذا ضعف في موطن أو ضيق عليه انتقل.. إلى موطن يكون فيه أكثر نفعا وعزا. ويقابل هذه الهجرة هجرة العبيد حيث يتنقل أصحابها بقلوبهم وأجسادهم إلى الدنيا وشهواتها يدفعون كرامتهم وعزتهم من أجل الوصول إلى متاع الغرور الفاني،ويصعدون على حساب غيرهم وإن كان هذا الصعود على أشلاء ودماء الأبرياء.. هجرة العبيد ذاب أصحابها في حب الدنيا وزينتها فهؤلاء لا يشبعون ولا يملأ أعينهم إلا التراب،هذه هي هجرة العبيد التي تجلب لهم التعاسة والشقاوة وإن ظنوا أنهم بذلك حققوا السعادة الدنيوية،ولكن هيهات هيهات فقد أصبحوا عبيدا للدنيا يولون من أجلها ويعدون من أجلها بل ويقاتلون ويقتلون ويستبحيون الدماء والأعراض من أجل الوصول إلى مآربهم،أصبحوا عبيدا للمال والسلطة والجاة، وقد حذر -صلى الله عليه و سلم – من هؤلاء وفعلهم ودعا عليه بالشقوة :"تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش .."(أخرجه البخاري). وهاتان الهجرتان بينهما لنا الرسول-صل الله عليه وسلم-:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه"(متفق عليه).