قبل انتهاء عطلة عيد الفطر السعيد بساعات، انتهت فترة التهدئة والهدنة التي خيَّمت على لبنان طيلة فترة شهر رمضان المبارك، وعاد السِّجالُ السياسيّ عالي النبرة هذه المرَّة ليحتلَّ صدْر صفحات الصحف اليومية والمجلات، كما عادت التصريحات الناريَة تملأ أثير الإذاعات، فيما كانت صورُ الشخصيَّات التي تصنَّف من الصقور في كل الاتجاهات السياسيَّة المتنازعة تحتلُّ المشهد التليفزيوني، وتملأ المسرح العام، معلنةً رفع سقفها إلى أعلى مستوى ممكن لتحصيل أقصى ما يمكن تحصيله من مكاسب سياسية في فترة يرى البعضُ أنها فترة إعادة رسم الادوار داخليًّا وإقليميًّا. فقد فجَّر المؤتمر الصحفي الذي عقده المدير العام السابق للأمن العام اللبناني، والذي كان موقوفًا لمدة أربع سنوات على خلفيَّة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اللواء جميل السيد، فجّر قنبلة مدوية في الوسط السياسي اللبناني، وأنهى فترة السماح والتهدئة التي فرضتها أيام الصوم، والقمَّة الثلاثية التي انعقدت في بعبدا وجمعت العاهل السعودي والرئيسين السوري واللبناني، وفتح باب السجال على أعلى مستوياته، فضلًا عن باب الاتهامات والشتائم التي لم يشهد لها التاريخ اللبناني مثيلًا، وذلك عندما اتّهم السيد القضاء برعاية شهود الزُّور وعدم محاسبتهم، وبالخضوع لرغبة وإرادة السياسيين، واتهم الأجهزة الأمنيَّة بعدم قيامِها بدورها وتنفيذ رغبة بعض السياسيين أيضًا، فيما كان الهجومُ على رئيس الحكومة أيضًا لسكوتِه عن شهود الزور مع إقرارِه بوجودِهم في تصريحه ل "صحيفة الشرق الأوسط السعودية"، وقد رد أنصار قوى 14 آذار على تصريحات جميل السيد، فاعتبروا ذلك بمثابة التهديد الصريح لرئيس الحكومة، وطالبوا النيابة العامة بالتحرك لوضع حد لهذه التهديدات، متهمين الفريق الذي يساند اللواء السيد بالعمل للانقلاب على الدولة وأجهزتِها ومؤسساتِها، وجاء ذلك في سياق مدروس ويوميّ. النيابة العامَّة التمييزيَّة تحرَّكت على خلفيَّة تصريحات السيد، وطلبت منه الحضور والمثول أمام القضاء للاستماع إلى إفادتِه بشأن التصريحات التي أطلقَها، إلا أن السيد الذي كان في باريس رفض طلب القضاء المثول أمامَه، متعللًا بمحاكمة شهود الزور في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذين – حسب وجهة نظره- كانوا سببًا في سجنه أربع سنوات، وقد لاقى اعتراض السيد هذا تأييدًا من بعض أطراف قوى 8 آذار، لا سيَّما من حزب الله والتيار الوطني الحرّ، بينما نأت "حركة أمل" والقوى الأخرى بنفسها عن الموضوع، في حين اعتبرتْ سوريا الأمر داخليًّا لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد، وقد شجّع ذلك اللواء السيد على مضيه في تحدي القضاء اللبناني، وكرّر مطالبه بمحاسبة المدعي العام التمييزي سعيد ميرزا، ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، ورئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن العقيد وسام الحسن، والقاضي الدولي ديتليف ميليس، وذلك في مؤتمرٍ صحفي عقدَه في مطار بيروت الدولي فور عودته من باريس، حيث حظيَ باستقبال حاشد من قِبل رموز قوى 8 آذار. مطالب اللواء السيد ردَّ عليها مباشرة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللبناني اللواء أشرف ريفي، فاعتبر أن مَن يستحقّ دخول السجن هو اللواء السيد، متوعدًا بمتابعة القضية ضمن الأُطر القانونيَّة والدستوريَّة والقضائيَّة. السجالات المتبادلَة، والأجواء المشحونة التي يرعى كلُّ فريقٍ سياسي بعضًا منها حوّلت حالة التهدئة والهدوء التي سادت خلال الفترة الماضية إلى حالة باتت البلاد تعيش معها على حافة الانزلاق نحو أتون الحرب الأهلية، أو الفتنة الداخلية التي يؤكِّد الجميع عدم سعيِها إليها، إلا أنه يجد نفسه يحثّ السير فيها، ومن هنا فإن الوضع الحالي في لبنان يعيش حالةَ غليان غير منظور، ونار تحت الرماد عبّرت عنها الاشتباكاتُ الأخيرة التي حدثت في منطقة برج أبي حيدر في بيروت بين حزب الله وبين جمعية الأحباش، مع العلم بأن الفريقين ينتميان إلى نفس التوجُّه السياسي، إلا أنهما يختلفان مذهبيًّا، ومن هنا تأتي التحذيراتُ المتكرِّرة من وجوب تخفيف حالة التوتُّر والعودة بالخطاب إلى المؤسَّسات الدستورية، وهذا ما يتبناه رئيس الجمهوريَّة ميشال سليمان، ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي، ويسعيان إلى تكريسه لإبعاد شبح الحرب والفوضى عن لبنان. البعض الآخر في لبنان لا يتخوَّف من المرحلة الدقيقة التي تمرُّ فيها البلاد، رغم دقتها وحساسيتها، ويعتبر أن الموضوع لن يخرجَ عن إطار السِّجالات السياسية والإعلاميَّة المرتفعة، التي لن يكون مسموحًا لها تجاوز الخطوط الحمراء التي تعني نقلَ الفوضى إلى الشارع، على اعتبار أن البلد الآن عاد ممسوكًا من سوريا بشكل كامل، وأن الأوضاع الحالية لا تشبه أوضاع وظروف مايو العام 2008 عندما دخل مسلَّحو المعارضة إلى بيروت، فاليوم الجميع هم أصدقاء سوريا، بل وحلفاؤها، وليس لها خصم في الداخل اللبناني كما كان عليه الوضعُ في العام 2008، وبالتالي فإنه من غير المسموح سوريًّا أن يتجاوزَ أحدٌ الخطوطَ الحمراء التي تعرِّض أمنَ البلد للاهتزاز، وبالتالي فإن هذا البعض يرى أن سقف هذه السجالات سيبقى سياسيًّا وإعلاميًّا، ولن يتجاوز ذلك، وسيكون هناك تسوياتٌ معيَّنة تضع حدًّا لهذه المرحلة من التوتُّر، وهذا ما عبَّر عنه بشكلٍ دقيق وصريح حليف سوريا الأساسي في الساحة المسيحيَّة النائب سليمان فرنجية. أيَّام وليالٍ ولبنان اليوم في سباق بين الاستقرار الذي يعزِّزُه التفاهمُ العربي السوري السعودي، والذي يمنع الانزلاق إلى فتنةٍ ما من أحدٍ يريدها، وبين الانزلاق إلى الفتنة فيما لو بقيَ السجالُ والتوتُّر على حالِه مع عدم العمل على تنفيسه وضبطه، وأثناء هذا السباق يحبسُ اللبنانيون الأنفاس ويتهيّبون الانزلاق نحو الفتنة التي ستكون حالقةً للجميع، لكنهم في أحيان أخرى ينسون أن أمنَهم وسلامتهم أهم من كل الاعتبارت، فيلجئُون إلى التفكير بشكلٍ أحاديّ بدلًا من التفكير بشكلٍ جمعي يضمن أمن واستقرار وسلامة الجميع، وهذا ما يمكن أن يجرَّ إلى الفوضى التي يتحاشاها الجميع. المصدر: الاسلام اليوم