تعرضنا في الحلقة الأولي من هذه السلسلة ( خارطة الطريق من يوسف الصديق) الى العنصر الأول وهو : أهمية التخطيط, وفيما يلي العنصر الثاني , صفتان لازمتان للقائد, إذأحسب أنه ثمة صفات من الأهمية توافرها فيمن يتصدى للعمل العام بمسئولياته وأعبائه, ولعل أبرزها القدوة والقدرة معاً: أولا القدوة. وتتمثل في منظومة القيم التي يدعو لها القائد, وحري به أن يكون أول الملتزمين بها, فيكون أمينا, صادقا,عادلا,رحيما ودودا..لقد وصف الله سبحانه وتعالى يوسف بأنه من المحسنين : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)- وإذا كان هذا الوصف ليوسف في مرحلة الاستضعاف من حياته, حيث افتقاد الحرية والأهل والوطن والنصير, فقد ظل لصيقا به بعد أن تبوأ منصبا مرموقا في الدولة, ولم يصرفه ذلك عن احسانه, كما قال الله تعالى : وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(56) إنا نراك من المحسنين هذا الاحسان الذي وصف الله سبحانه يوسف به, بدا واضحا جليا حتى لغير الملتزمين, فقد تكرر وصف يوسف أنه من المحسنين من فريقين كان كل منهما يعاني ارتباكا في منظومة القيم. فقد جرى في المرة الأولى على لسان إثنين من المسجونين, لم يظهر في السياق أنهما من المظلومين, كما جاء في قوله تعالي: [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)] والمرة الثانية جاءت على ألسنة إخوة يوسف : [ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)] وهذا يعني بروز صفة الاحسان في يوسف عليه السلام بجلاء تام, مما دفعهم للاقبال عليه والاحتكام له, والقائد بحاجة ماسة لأن يكون قدوة, لترنو اليه القلوب والأبصار, ويتطلع اليه الناس له آملا في أن يجدوا حاجاتهم عنده. وقد حث الله المؤمنين على حسن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في سورة الأحزاب: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21).. وقد كانت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفها الشيخ الغزالي رحمه الله في كتابه فقه السيرة " قيادة تهوي اليها الأفئدة". وعلى طريق القدوة, وأهميتها, حرص يوسف على تبرئة ساحته أولا, فرد رسول الملك كما جاء في قوله تعالى: [ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) ] . فلم يكن من المناسب له أن يتولى منصبا ما وهو محاط بالشبهات, فكرام الناس لا يسعون لتحقيق غاياتهم النبيلة إلا بوسائل نبيلة ونظيفة خالية من الشبهات. ثانيا :القدرة. وهي تشمل ضمن ما تشمل القدرة الذهنية والبدنية والعلمية والنفسية المناسبة للمنصب,وقد وصف اللهُ تعالى يوسفَ عليه السلام بقوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22). وهذا يعني التأهيل الرباني له بالحكمة والعلم ليستطيع القيام بالمهام التي ستوكل إليه, وقد قدم يوسف عليه السلام نفسه لحاكم مصر بأنه: "حفيظ عليم" [وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)]. إقدام من يُوسف : طلب الولاية من المؤهل لها دون الخوض في قضية تزكية النفس المنهي عنها وفقا للنص القرآني [فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ – النجم 32], وطلب الإمارة المنهي عنه وفقا للحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي موسى حيث قال صلى الله عليه وسلم : [ إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه], فقد تناولته مباحث فقهية مختلفة بالشرح والتفسير, ومتي يجوز ومتى يُحظر. فقد تقدم يوسف عليه السلام لأداء مهمة إدارة اقتصاد الدولة في وقت عصيب, إذ يلوح في الأفق خطرمجاعة تكاد تعصف بمصر ومن حولها لسنوات طويلة قادمة,وما كان ليوسف عليه السلام أن يتقدم لطلب الولاية دون توافر القدرة التي تمثلت في العلم الذي مكنه من شرح الحقائق كاملة,ومعرفة الأخطار المحدقة, وكذك معرفة طريق السلامة والنجاة,ولم يتقدم للتصدي للمسئولية الضخمة باعتباره يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم, ولم يتخذ هذا النسب الكريم مؤهلاً للولاية, إنما جعل مؤهله لإنقاذ البلاد خطر المجاعة, أنه حفيظ: والحفظ هو الأمانة, وكم ضاعت حقوق, وأهدرت مُقدرات, ونُهبت ثروات حين تولي الأمر فاقد الأمانة, وهذا الحفظ أو هذه الأمانة تشمل كل انشطة البلاد والعباد, وهذه الأمانة لم تجعله يطلب المنصب تحقيقا لجاه أو سلطان, بل لإنقاذ البلاد والعباد في ظل أزمة طاحنة مقبلة تتطلب النزاهة, فلا استغلال لمنصب, او احتكار لسلعة, او تحقيق لمكاسب شخصية . المؤهل الثاني : القدرة ( علم وخبرة ) ,وهوماجاء على لسان يوسف في قوله «عليم» بمعنى صاحب الخبرة، وهذا المؤهل لا ينفصل عن المؤهل الأول, بل يجب توافرهما معا ( حفظ وعلم ) أو ( أمانة وخبرة ) أو (قدوة وقدرة). امرأة ذات نظرة ثاقبة رأت أبنة شعيب ( بذكائها ) أن ( القدرة والقدوة أو القوة والأمانة ) هما أهم ما يتميز به موسى عليه السلام من مؤهلات ترشحه للعمل لدي والدها شعيب عليه السلام, كما جاء في سورة القصص:[ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)] هذه الحصافة من ابنة شعيب, وصحة نظرتها في صفات المرشح لإدارة مال ابيها, تتوافق مع ما جاء في سياق سورة يوسف حول شروط تولي المناصب, واهمية الجمع بين الصفات الأخلاقية والعملية, إن كان لصالح فرد( كما في حالة موسى وشعيب عليهما السلام) أو لصالح أمة( كما في حالة يوسف عليه السلام). معايير المَلِك وصلاحيات الحكم بدا الملك في سورة يوسف ملكا لديه معايير صحيحة وقيم هامة يحتكم لها عند اختياره من يتولي المناصب في الدولة, فعندما اطمأن الى ( علم ) يوسف الذي بدا من تأويله لرؤيا الملك, عندئذ ذكر القرآن : وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (50), فلما امتنع يوسف عن الخروج إلا بعد اظهار براءته ونقاء سمعته لدى الناس, فلم يتردد الملك ولم يغضب لامتناع يوسف ولم يأخذه الكبر والغرور, بل سعى لمعرفة الحقيقة, وجمع النسوة, وأقررن ببراءة يوسف, عندئذ علم الملك أن يوسف عليه السلام صاحب خلق, وعندئذ رأي الملك أن الصفتين اللازمتين لتولي المناصب محققتان في يوسف عليه السلام ( العلم " القدرة"– الخلق" القدوة"), والعلم يمثل القدرة " الفنية" اللازمة للقيام بالعمل , والاخلاق تمثل الإطار الأدبي الذي يعصم من الزيغ. لقد اكتفى الملك بقوله ( ائتوني به ), عندما اطمأن الى صفة واحدة وهي العلم, لكنه عندما اطمأن الى توفر ( العلم والخلق معاً) كمعايير صحيحة يحتكم لها, ويختار وزرائه على أساسها,قام باختيار يوسف عليه السلام لتوليته منصبا رفيعا بالدولة بلا سابق معرفة ولا قرابة كما ذكر القرآن الكريم: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (54). وبعد اطمئنان الملك الى خلق وكفاءة رئيس وزراءه ( الحاكم الفعلي ), منحه كآفة الصلاحيات لتحقيق الإصلاح وتنفيذ الخطة بحرية كاملة عبرتمكين كامل له يتصرف من خلاله كيف يشاء, وهو ما نفهمه من قول الله جل وعلا "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين" هذه الإدارة الكاملة بكل الصلاحيات, تضبطها قوانين وتشريعات ونظم, لتحقيق الغاية منها, بحيث تكون الولاية رحمة بالعباد والبلاد, للحاكم والمحكوم, تمنع الطغيان والفساد والاستبداد, ويأمن الناس علي حياتهم واعمالهم ومستقبلهم, كما تحقق للحاكم التعاون الكامل من شعبه رحمة به, حينئذ تكون الولاية رحمة, كما اتصف بها عمر بن الخطاب ذات يوم " حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر", رحمة تسمح بمكافأة المُحسن ومعاقبة المقصر وهي التي ختم الله بها قوله : "نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين" لذلك كان عجيبا أن تكون الرحمة غاية رسالة النبي صلي الله عليه وسلم, رحمة بالرجال والنساء والأولاد , رحمة بالطير والحجر والشجر, رحمة تسمح بالتعايش السلمي مع المختلف في الدين والعقيدة, كما جاء اجمالا في قول الله ( وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين )- الأنبياء .