في مقالِنا السابق (طالبان على أبواب النصر التاريخي) شرحنا بإسهاب أزمة الوجود الغربي الاحتلالي في أفغانستان، وأوردنا ما يدور في الأوساط السياسية الغربية من تأكيداتٍ على استحالة تحقيق النصر على "طالبان"، وتعرَّضنا للقرار الاستراتيجي الذي تَمَّ اتخاذُه بالانسحاب من أفغانستان، وأكدنا أن ذلك يمهد للانتصار التاريخي للمقاومة الأفغانية على العدوان الأمريكي الغربي. ويبدو أن كلامنا أوجع الأمريكان فخصَّصُوا أحد أفراد قيادتهم المركزية "أندرو سنو" للردّ على المقال، بل والاشتباك مع القُرَّاء والرد على ردودهم، وكان هذا الأمر الغريب له مغزى واحد، وهو أن القومَ قد أصابهم الهلعُ حينما لمسنا وترًا حساسًا لديهم، وهو استعدادُهم للانسحاب، وبحثهم عن أنسب تغطية لحفظ ماء الوجه ومنع الفضيحة أمام العالم. ونحن في هذا المقال نكشف جانبًا آخر للخَيبة والفشل الأمريكيين، ونؤكد أن أمر الهزيمة تخطَّى العسكريين والقادة السياسيين إلى الإعلاميين، بل وأصبح المواطن الأمريكي البسيط يعرف تفاصيله. شيوع أمر الفشل والهزيمة على الجبهة الأفغانية كجبهة رئيسية وعلى الجبهة الباكستانية كجبهة فرعية جعل الأمريكيين يفقدون أعصابَهم ويكشفون عن وثائق يقولون إنها سرية تؤكِّد أن باكستان تدعم حركة "طالبان" سرًّا في الوقت الذي تتلقَّى فيه مساعدات أمريكية. وكشفت منظمة "ويكيليكس" عن معلومات تم تسريبها تقول إنها جاءت في أكثر من 90 ألف وثيقة تؤكِّد هذه المزاعم الأمريكية عن تعاون باكستاني مع "طالبان"، وأن ممثلين لجهاز المخابرات الباكستاني اجتمعوا بشكلٍ مباشر مع "طالبان" في جلسات تخطيط سرية لتنظيم شبكات جماعات المقاومة الأفغانية التي تقاتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان، وتتناول إحدى الوثائق، كما تزعم التقارير المسَرَّبة اجتماعًا لمقاتلي "طالبان" حضره مسئولٌ كبير سابق في المخابرات الباكستانية يبدو أنه يعمل ضد القوات الأمريكية في أفغانستان. وبالتوازي مع هذه التقارير الأمريكية "الموظَّفَة" لخدمة الحرب الأمريكية، يتحدث الإعلام الأمريكي هذه الأيام عن جماعة "حقاني" ودورها في مقاومة العدوان الأمريكي الاحتلالي، كما يتحدث هذا الإعلام أيضًا عن تلكُّؤ الجيش الباكستاني في ملاحقة "طالبان"، بل وفي دعمها والتواصل معها ومع جماعة "حقاني" بهدف إيجاد موطِئِ قدَمٍ باكستانية في الساحة الأفغانية، وبالتالي محاولة تحييد الدور الهندي في أفغانستان. لا يمكن أن نفهمَ هذه التقارير المشبوهَة إلا في إطار فهمنا للعقلِيَّة الإعلامية الأمريكية حينما تريد "التخديم" على سياساتها واستراتيجياتها، وهي هنا تغطيةٌ مكشوفة تريد بها الإدارة الأمريكية أمرين: الأمر الأول جعلها وسيلة أمريكية تقليدية ومتكرِّرة لمزيد من الضغط على باكستان من أجل مزيد من التعاون في الحرب اليائسة ضد "طالبان"، والأمر الثاني هو جعل ذلك "شمَّاعة" من أجل تعليق الفشل في أفغانستان عليها والادِّعَاء بأن "الخيانة" الباكستانية هي السبب في الهزيمة. ولا يمكن لأي عاقلٍ أن يستوعب أن هذه الوثائق هي السجل الموثق للحرب في أفغانستان من عام 2002 وحتى عام 2009، أي أن الإدارة الأمريكية على عِلم بها منذ البداية، فكيف تجاهلتْ ذلك واستمرَّت على نهجِها في العلاقة مع النظام الباكستاني؟ الذي يمكن أن نفهمَه ويفهمه معنا العالمُ كلُّه هو أن الضغط الأمريكي على النظام الباكستاني لم يتوقفْ لحظةً واحدة، كما أن استجابة النظام الباكستاني ورضوخه كانا استجابة كاملًا ورضوخًا كاملًا، ولو افترضنا وجود تعاون استخباراتي باكستاني مع "طالبان" فيمكن أن نصدق أنه كان تعاونًا فرديًّا من البعض، لكن تَمَّ كشفُه والسيطرة عليه، وإلا فما معنى أن يتم استهدافُ "طالبان" باكستان وتشريد أفرادها وقتل قياداتها ومحاصرة مؤيديها وأنصارها وهدم منازلهم وقُراهم؟ لقد فَاتَ الأمريكان أنه لولا دعمُ النظام الباكستاني اللامحدود للاستراتيجيَّة الأمريكية المدعاة بالحرب على ما يسمى "الإرهاب" لجاءت الهزيمة سريعة للأمريكيين منذ الشهور الأولى، فصحيحٌ أن ساحة الحرب الرئيسية كانت هي الأرض الأفغانية، لكن الصحيح أيضًا أن المَدَد الاستراتيجي وطرق وشرايين الإمداد والتموين كانت تمرُّ من خلال باكستان، والصحيح أيضًا أن الجيش الباكستاني كان مسخرًا بالكامل لقتال "طالبان" والتضييق عليها وعلى "القاعدة"، والصحيح كذلك أن الاقتصاد الباكستاني كان مسخَّرًا بالكامل لخدمة هذه الحربِ الملعونة التي لا ناقة فيها لباكستان وللباكستانيين ولا جمل، بل إنها كانت ضد المصالح التاريخية وعلاقات الرحم والدم والقربى والدين بين البلدَيْن الشقيقَيْن. وهكذا فإن الادِّعاءات الأمريكية والتقارير الاستخبارية المشبوهة والمزوَّرَة لا يمكن فهمُها إلا في الإطار السابق الذي أوضحْنَاه، وهو إطار تكثيف الضغوط على إسلام أباد للتحرك عسكريًا ضد شبكة جلال الدين حقاني المناهضة للحكومة والاحتلال الأمريكي والغربي. "باكستان" في الاستراتيجية الأمريكية دولة شديدة الأهمية سواء كونها مفتاحًا رئيسيًا للقضية الأفغانية، أو كونها المعادل الموضوعي للاستقرار في شبه القارة الهندية حيث توازن كفة الهند وما تمثِّله من توجُّهات ومصالح، أو كون الارتباط الأمريكي بعلاقات استراتيجية مع النظام الباكستاني يسمحُ بالسيطرة على الترسانة النووية الباكستانية وجعلها في يدٍ بعيدة عن الإسلاميين الباكستانيين. هذه الأهمية الاستراتيجية لباكستان بالنسبة للولايات المتحدة، جعلتْ رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الأميرال مايك مولين يحثُّ المسئولين الباكستانيين على اتِّخاذ إجراءات صارمة ضدّ جماعة "عسكر طيبة" وضد "شبكة حقاني" التي يقول الأمريكيون إنها تحالفت مع "طالبان" أفغانستان لضرب قوات الاحتلال. باكستان المسلِمة خسرتْ خسارة كبيرة من توظيفها لخدمة المشروع الأمريكي، والجرائم التي ارتكبها الجيشُ الباكستاني في منطقة الحدود بأوامر القيادات العلمانية الموالية للأمريكان، وتجنيد هذا الجيش المسلم لقتال قبائل باكستانية، من أجل عيون الإدارة الأمريكية التي تخوض حربًا صليبيَّة شَعْواء ضد العالم الإسلامي، كل ذلك كان خسارة باكستانية غير محدودة. خسِرَتْ باكستان كثيرًا بتوظيفها لخدمة المشروع الأمريكي المسمَّى "الحرب على الإرهاب" وقيامها باعتقال قياديي "القاعدة"، ومنهم "أبو زبيدة" و"رمزي بن الشيبة"، في 2002، و"خالد الشيخ محمد"، في 2003، و"محمد نعيم نور خان" في 2004، و"أبو فرج" الليبي في 2005، وغيرهم الكثير والكثير وتسليمهم إلى المخابرات الأمريكية، والقبض على عشرات، بل مئات من الباكستانيين وغير الباكستانيين وتقديمهم هدايا للولايات المتحدة لتملأ بهم معتقل جوانتانامو. خسرَتْ باكستان كثيرًا بقبولها بلا تردد بالأوامر الأمريكية الخاصة بالسيطرة على المدارس الدينية الباكستانية وتجفيف المنابع ضدها ومواجهتها على أكثر من صعيد لاتهامها بتخريج الجهاديين الذين يزعجون الأمريكان وخططَهم، وجاء وضع هذه المدارس تحت رعاية وزير الداخلية من خلال هيئة تقوم بتسجيل المدارس الدينية ويكون من صلاحياتها إعادة النظر في المناهج، وفرض رقابة شديدة حول مصادر تمويلها، مع اشتراط الكشف عن مصادر التمويل والمناهج قبل التسجيل. خسرت باكستان حينما خصَّصت ثمانين ألف جندي باكستاني للقتال في منطقة الحدود مع باكستان، بكل ما يمثِّلُه ذلك من خسائر بشرية ومادية، وعلى حساب تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة والمجتمع والإنسان في باكستان. الخسائرُ الباكستانية متعددة المستويات، لا يمكن أن تعوِّضَها أية مساعدات أمريكية حتى لو وصلت إلى 7.5 مليار دولار على خمس سنوات، كما أعلنت عن ذلك وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون مؤخرًا. وإذا كانت الولاياتالمتحدة وشركاؤها الأوروبيون قد تيقَّنُوا من هزيمتهم التي أشرنا إليها واتخذوا قرار الانسحاب الذي يبحثون له عن ظرْفٍ مناسب لإكماله، وإذا كان نظام حامد قرضاي قد أدرك ذلك هو الآخر، فإن النظام الباكستاني قد توصَّلَ إلى نفس القناعة أيضًا، فباكستان أدركتْ قبل واشنطن، بخبرتها الطويلة في الاحتكاك مع أفغانستان وفهمها لطبيعة التركيبة الاجتماعية والديموغرافية الأفغانية، أن الحوار والمصالحة وتقاسُم السلطة حلّ لا مفرّ منه، وأن الحسم العسكري وإقصاء "طالبان"، لن يكون حلًّا نهائيًّا، فضلًا عن استحالة الوصول إلى هذا الحسم. وهذا الإدراكُ يفسِّر تسارعَ الجهود الباكستانية في الوساطة بين نظام قرضاي وجماعات المقاومة الأفغانية، وربما يكونُ النظام الباكستاني يحاول الإسراع بالدخول إلى الساحة الأفغانية قاطعًا الطريق على الهند في السيطرة على "أفغانستان ما بعد الحرب". وأخيرًا فإننا نقول: إن باكستان فعلَتْ كل ذلك، وفي النهاية لم تنَل الرضا الأمريكي، بل تنهال عليها اللعنات الأمريكية والانتقادات يوميًّا، محمّلةً إياها مسئولية الهزيمة على يد "طالبان"، وهو درس ينبغي أن تتعلَّمَه الأنظمةُ السياسية العربية والمسلمة، التي ينبغي أن تراهن على شعوبِها، وأن تعملَ لخدمة هذه الشعوب ولخدمة مصالحها القومية العليا، وألا تكون في يومٍ من الأيام ظهيرًا وداعمًا لقوى الشر والاستكبار الكارهة للإسلام والمحاربة لدوله وأبنائه، بل لا بد لهذه الأنظمة من الولاء للمؤمنين مهما كان ضعفهم، ومن مقاومة أهل الظلم والعدوان، مهما كانت قوتهم، بل والتبرُّؤ منهم ومن جرائمهم وسياساتهم، ولا بارك الله في أي نظام سياسي يضحي رباط العقيدة وأخوة الدين والجيرة والتاريخ ويتحالف مع أعداء الأمة؛ من أجل الحفاظ على كراسي الحكم والمناصب الزائلة والأموال المسمومة، لأنه في النهاية ورغم كل تنازلاتِه وخيانتِه ستكون نهايتُه الخزي والفضيحة على رءوس الأشهاد. المصدر: الاسلام اليوم