مع تزايد ضغط النظام على الإخوان (عبر اجهزته الأمنية ) لمحاصرة نشاطهم الوعظي والإرشادي والدعوي عبر المساجد , فقد تزايدت معه مساحة العمل السياسي للإخوان كنتيجة طبيعية, فجماعة الإخوان تعبرعن فكرة لها رصيد ديني فطري اصيل, ومن ثم صار لها تيارا شعبيا معتبرا, وتتشابه حركة أي تيار مع حركة الماء الجاري, فإن شُيدت الموانع أمام تيار الماء الجاري فلن يكون تصريف الماء إلا عبر سبيلين, أولهما أن يتوقف جريانه دون أن يتوقف تراكمه أمام المانع مما قد يؤدي الى فيضانه عشوائيا, وثانيهما : أن يجري الماء عبر وادي أخر غير الوادي المسدود, ولعل هذا يفسر هذه الزيادة المضطرده في حجم المشاركة السياسية للإخوان في الحياة العامة,.. لكن جريان الماء في الوادي الجديد قد اصطدم بمانع الحظر القانوني, مما نتج عنه اعتقالات ومصادرات ومحاكم عسكرية وتشويه إعلامي, وقد انتج ذلك المانع أو السد حيرة جديدة, سواء للنظام أو الإخوان , فلم يبلور النظام بعد طريقا يجري فيه الماء, وذلك كنتيجة لعناده الدائم وعدم استجابته لصيحات وطنية متتالية بضرورة فتح الطريق لجريان الماء ( دمج الإخوان وغيرهم في الحياة السياسية ), لكن سدنة النظام لا يدركون ( تحت تأثير الغرور بأجهزة الأمن ) خطورة سد الطريق دون تجهيز بدائل للسير, وإذا كان تفسير المشهد يوحي بأن النظام كأنه هو الذي دفع بالإخوان الى خضم الحياة السياسية انتقالا من أطرافها, فسلوك لنظام قد يدفع ناشطين آخرين ( إسلاميين وغير إسلاميين ) الى تأسيس جديد لتيار العنف بعدما رأوا بأم أعينهم أنه ليس ثمة سبيل للعمل السلمي المعتدل, ومن هنا نفهم سر نشأة كل تيارات العنف في بيئات الاستبداد,.. لكن الإخوان وقد استقر مشروعهم الإصلاحي على انتهاج النهج السلمي المعتدل المتدرج, فقد تبدت بهم الحيرة أيضا حول خياراتهم المختلفة أمام عناد النظام, ولعل الخيار السياسي الذي حاز زخما عند الإخوان كطريق يسلكه التيار الجاري يستدعي لتفعيله وقفات لإزالة تحدياته,ومنها : 1/ الشرعية كانت نتيجة مشاركة الإخوان في انتخابات البرلمان في 84, 87, 2000,95, 2005 م – وكذلك في الانتخابات النقابية والطلابيه والمحليات بمثابة اعتراف من المجتمع بأحقية وجودهم ضمن دائرة العمل العام , لتنهي الجدل حول احتكار تمثيل الأمة على فريق بعينه دون سواه, وأدى ذلك الى اكتساب الجماعة مصدرا هاما من مصادر شرعيتها, وإن بقيت هذه الشرعية منقوصة بسبب الحظر القانوني التعسفي من السلطة, وبدا بوضوح أن السلطة لا تعبر عن ( جل ) الشعب المصري, فأهم صفة تتصف بها أي سلطة أنها تمثل شعبها بخياراته واحلامه وآماله وتطلعاته, ولا يصح أن يمنح الشعب وجودا معتبرا, وتقرر السلطة حظرا !! أسباب الحظر: تاريخية – فكرية – استبدادية تاريخية: ما من شك أنه يوجد قدر من التوجس لدى السلطة من التيار الإسلامي,مدعوما بتحريض سافر داخلي وخارجي, ويعكس التحريض الخارجي تاريخا من الرفض للهوية الإسلامية, تمثل قديما في الحروب الصليبية فالحقبة الإستعمارية, ثم في الضغوط الدولية السياسية والاقتصادية والثقافية حاليا. فكرية :عبر فريق من النخبة المصرية ( والعربية ) عن تخوفهم من المشروع الإسلامي, إما بسبب الإرث التاريخي للدول المستبدة, وإما بسبب الميول الايدلوجية التي ترى حلولا اشتراكية أو رأسمالية أو علمانية لمشكلات الوطن وتتجاهل أو تعادي وتخاصم أي حلول تنبثق من هوية الأمة وثقافتها وخصوصيتها.. كما لم يفلح الإسلاميون حتى الآن في اغلب البلاد الإسلامية ( دون إغفال استثناءات معتبره ) في بلورة مشروع سياسي يحظي بالوضوح, والواقعية, والتوافق, ولم تبذل الجهود اللازمة لنقل حالة التوجس من مشروعهم الى حالة الاطمئنان, وخاصة مع ارتياح بعض الإسلاميين الى أنهم على صواب لا يحتمل الخطأ, وغيرهم على خطأ لا يحتمل أي صواب, كما بدا المشهد الإسلامي في مجموعه وبكل تياراته متلاوما لبعضه منعزلا عن بعضه, متترسا بخياراته الفقهية والفكرية. وإذ قام إسلاميون أبرار بسعي محمود يهدف لإصلاح البلاد, فتصدر المسيرة بعضهم, لكنهم لم ينجحوا في حيازة وفاق وطني معتبر أيضا, وذلك لأسباب عدة منها: ارتباك خياراتهم الفكرية, فمنهم من يُعظّم مساحة الثوابت على حساب مساحة المتغيرات,مما قد يؤدي الى حدوث قدر كبير من التوجس تجاههم, فإذا كان (جل ) ما تسير به من الثوابت, فهذا يعني غلق باب الحوار, وإذا كان جله متغيرات (إلا ثوابت الإسلام فقط ) فقد يساهم ذلك في تقريب المسافات مع آخرين. بينما يتحدث آخرون عن " واقعية " سياسية لكنهم لم يحققوا لها توافقا معتبرا داخل الفريق الإسلامي الواحد, بما يوضح غياب التوافق الهدفي, فالذي يهدف الى "نفاذ" مشروعه يتصف بقدر كبير من المرونة, والذي يريد التعبير عن مشروعه وكأنه يقول: هذه خياراتي وهذا مشروعي, دون أن يأبه بغيره, فقد يؤدي ذلك الى عرقلة تحقيق أهداف المشروع,ولعل هذا الأمر بحاجة الى مدارسة هادئة, تجيب عن سؤال بسيط: ماذا تريد الحركة الإسلامية الآن عبر مشروعها السياسي؟ هل تريد التعبير عنه فقط أم تريد أن تشق له طريقا وتحقق له نفاذا؟ استبدادية : تظل الأنظمة المستبدة أكبر حجر عثرة أمام أي تطور للمشروع الإسلامي, وذلك بسبب الإقصاء أو الحظر أو التهميش, فالعمل في الميدان العام يؤدي الى التصدى لمشكلات حياتية قد لا يصلح فيها التنظير المجرد, ومن ثم فإن مداومة ممارسة العمل العام يحقق قدرا من الموائمة تارة, والمرونة تارة أخرى, والواقعية تارة ثالثة, وقد رأينا حماس وهي تتصدى لمشكلات الحكم,غير حماس التي كانت في المعارضة, فبينما كانت وهي في المعارضة ترفض وقف إطلاق الصواريخ على الصهاينة, قامت "وهي في الحكم" بوقف إطلاق الصواريخ ( لضرورات هامه ومعتبره) ,ولم تكن حماس " وهي في المعارضة" تقبل بدولة فلسطينية على حدود 67, بينما قبلت ذلك وهي في الحكم, ولا أحسب أن ذلك تفريطا في الثوابت لكنه يمثل واقعية سياسية مرحلية معتبرة, ولا يعني ذلك صواب خيارات السلطة بإطلاق فهي سلطة فاسدة بشهادة كثير من المنظمات الدولية المستقلة. 2/ الأوعية والأدوات السياسية إثر وضوح مساحة العمل السياسي وأهميته, سيترتب عليه تساؤل حول كيفية التعبير عن هذه المساحة ؟ بمعنى : ما هي الأوعية المقترحة لتملأ هذه المساحة, هل هي حزب ؟ وما هو برنامجه؟ وماذا يُراد به ( أيقتصر على الوجود أو المشاركة الهامشية ,أم يبحث عن السلطة , فالوجود فقط له صورة , بينما طريق السلطة له صورة أخرى) , وكلما اتسعت المساحة لتصبح مشروعا سياسيا, سيكون بحاجة الى عنصر المبادأة أو المبادرة, كما أن السياسة بحاجة الى أوعية وأدوات تعمل من خلالها (حزب ومسار وتخصص وبرنامج وتثقيف وكوادر سياسية وشرعية قانونية وغير ذلك) 3/ المرجعية تعتبر جماعة الإخوان بالأساس حركة اجتماعية,وكأي حركة اجتماعية لها مشروع لمجتمعها، إذ إنه لا توجد حركة اجتماعية في العالم كله بلا مرجعية لمشروعها، ومرجعية الإخوان هي الإسلام في مواجهة المرجعيات العلمانية التي أخفقت في إنجاز المشروع الوطني لأمتها ( كما كتب الدكتور كمال حبيب بعنوان :ملامح الوجه الجديد للحركة الإسلامية في مصر- وجهات نظر – الجزيرة - 2006 ). لذلك فإن عليها إعادة التشكيل من منظور جديد محوره ضرورة المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية عبر رؤى جديدة معاصرة تضع الواقع ومشاكله وتحدياته في بؤرة اهتمامها واجتهادها ( كما ذكر حبيب) وهو "اجتهاد سياسي"، إذ نظن أنه مختلف عن "الاجتهاد الفقهي", فبينما الاجتهاد السياسي ينطلق في الأساس من الواقع مستضيئا بالنص فإن الاجتهاد الفقهي ينطلق من النص مستضيئا بالواقع.ومن ثم فنحن أمام طور جديد للحركة الإسلامية المصرية تنتقل فيه من مناقشة قضايا الاعتقاد والفقه وعلاقتها بالمجتمع والناس في صورة حادة تعزل الحركة عن مجتمعها إلى مناقشة قضايا المجتمع والناس والوطن والدولة في علاقتها بالعقيدة والفقه في سياق واسع للتأويل والاجتهاد وهو ما يقود إلى الوسطية التي ترسخ لتمتين علاقة الحركة الإسلامية بمجتمعها وتماهيها معه لبناء الأساس المتين الذي يقف مساندا للقوى الإسلامية في صراعها الذي قد يكون عنيفا وقاسيا مع الدولة بكل تراثها ومزاجها الانقلابي العنيف. 4/ الدعوي والحزبي إن العمل السياسي سيتطلب بشكل أو أخر فك الالتباس الجاري حاليا بين رؤيتين معتبرتين, إذ يرى أصحاب الرؤية الأولى أنه من الأسلم عدم الاقتراب من الهيكل العام للجماعة, لتظل كما هي يمارس أعضاؤها كل الوظائف تطبيقا لما يحسبونه التعبير الصحيح عن شمول الإسلام, بينما يري فريق أخر أن شمول الفكرة لا يعني بالضرورة شمول الممارسة, ومن ثم يقتضي ذلك فصل مسار العمل السياسي عن الدعوي, ومع طرح الموضوع للنقاش الحر, فقد تبلور رأيا ثالثا (أحسبه هاما), وقد طرحه د.ابو الفتوح ملخصه أنه لا يمكن فصل الدين عن السياسة, أو الدعوي عن السياسي, لكن المطلوب والمهم هو فك الارتباط بين العمل الدعوي والعمل الحزبي ( وهو تحديد أدق ), ولعل هذا من حسنات وثمار النقاش المعلن والمفتوح, لكن تبقى القضية في أروقة الإخوان لم تحسم بعد. 5/ التراث الثقافي الحركي تظل واحدة من أهم إشكاليات الحركة الإسلامية المعاصرة تكمن في بعض التراث الفكري الحركي,فالمشروع الإصلاحي الإسلامي يعمل غالبا داخل الدولة المسلمة التي أصاب الانحراف كثيرا من مكوناتها, لكنها تبقى دولة مسلمة, إذ استقر في الفقه الإسلامي أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر, ولدينا في المجتمعات الإسلامية انحرافات كثيرة دون الكبائر أصلا , لكن المسار الفكري والحركي للحركة الإسلامية لا يزال يستدعي من الآيات والأحاديث والمواقف التي كانت بين الإيمان والكفر, بينما الخلاف الحالي " داخل المجتمعات الإسلامية" ليس بين إسلام وكفر, لكنه بين التزام وانحراف, وهذا من شأنه أن يشكل فارقا كبيرا في محددات وخيارات الحركة مع مجتمعاتها, وأسوق مثلا توضيحيا, لقد رأينا إبان أزمة انتخابات مكتب الإرشاد الأخيرة اقتباسات من سورة النور حول حادثة الإفك واسقاطها على اختلاف وجهات النظر داخل ابناء الحركة, ورأينا من يُعلق على نتيجة انتخابات مجلس الشورى المصري, حينما حال النظام دون نجاح أي إخواني فيشبهه بمقتل الغلام في قصة اصحاب الأخدود, إذ مات الغلام, لكنه حقق أعظم انتصار بهذا الموت الذي كان سببا في إيمان قومه!!! 6/ نقل مفهوم التدرج من " النظرية" الى " الممارسة" لقد شارك الإخوان في مجالس قد يشوب أدائها قدر من الخلل مما استجلب عليهم انتقاد تيارات إسلامية رأت في تلك المشاركة تفريطا ومداهنة, بينما كان اجتهاد الإخوان بالمشاركة اجتهادا معتبرا أقرب للصواب, لكنه يبقى طريقا متدرجا, فيه من الخير ولا يخلو من شر, تحت قاعدة مالا يدرك كله لا يُترك جله, بما يوافق الشارع الحكيم، إذ أنه في باب التكليف لم يطالب المكلفين إلا بما يقدرون، دون أن يلحقهم فيه حرج أو مشقة فمن قَدر على ما كُلِّف به لزمه فعله، ومن عجز عن بعضه، انتقل من حال التمام التي يعجز عنها إلى التي أدنى منها ويطيقها. قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [ التغابن 16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه. إن الحركة الإسلامية اليوم بحاجة ماسة الى إعادة النظر في الطريقة المتدرجة التي أصلح بها عمر بن العزيز العطب الذي أصاب دولة بني أمية ( المسلمة), والى الطريقة التي تحقق بها الإصلاح في الشمال الأفريقي ( المسلم) عبر دولتي المرابطين والموحدين, وكذلك الجهود الداخلية الإصلاحية لقطز وصلاح الدين داخل الدولة المسلمة حينما أصابها العطب والخلل,وهو التوصيف الحالى لنظمنا الحالية,ثم النظر في في التجارب المعاصرة, كحزب العدالة والتنمية التركي, لا في تكرار التجربة ( لأن معطياتها تختلف عن معطيات واقعنا العربي ) ولكن في طريقة التفكير التي ترى أهمية التدرج في الطرح لتحقيق النفاذ من حالة الانسداد, وصولا لتحقيق الأهداف بتدرج أيضا. هذه التحديات ( مثالا لا حصرا ) أحسب أن تكون على طاولة نقاش من يهمه أمر الحركة الإسلامية, آملا أن يتسع الوقت لمناقشتها وكذلك الصدور, فكما ارتضت الحركة النهج المتدرج سبيلا للإصلاح, وارتضت أن تأخذ من الفقه أيسره ,فلا أري بأساً من إعادة النظر في المناهج والإداريات والوسائل والخيارات المختلفة برحابة صدر, فيرون ما يمكن الاستمرار عليه, وما يمكن تحديثه ليواكب الواقع بمتغيراته الواسعة, سعيا لنفاذ متدرج تتحقق به الأمال تباعا . [email protected]