يعد الصبر من أعظم الفرائض إشارة إلى قول الله تعالى في سورة النحل: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، والصبر إذعان لله وحكمه وقضائه وحكته في تصريف وتدبير المقادير، يقول المولى تبارك وتعالى: (واصبر لحكم ربك) فقلد أمرنا الله عز وجل بالصبر لحكمه. والصبر لا جزاء له سوى الفلاح ونيل المقاصد التي ارتضاها الله لعبده باعتبار أن الصبر شرط رئيس من شرائط الإيمان التي يرفع الله بها درجات العبد في الجنة، يقول تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وعلم العبد ويقينه بأن صبره على البلاء والابتلاء وتصاريف القدر هو برزخ يعبره المرء تحقيقًا لغاية كبيرة هي الفوز برضا الله عنه. والصبر أنواع وصنوف منها الصبر لله في مقام حق اليقين لقول الله تبارك وتعالى: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) وفي هذه الآية الكريمة وجوب للصبر لحكم الله تعالى، ومنها أيضًا الصبر بالله على تحمل أعباء الرسالة والمهمة كقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله)، ومن أبرز وأحكم أنواع الصبر، الصبر في الله، فمن صبر في الله ومعه كان معه وفي معيته ورعايته التي لا تنقضي، يقول تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)، ويقول تعالى أحكم الحاكمين: (إن الله مع الصابرين). ويرى أبو الحسن الماوردي أن الصبر على امتثال ما أمر الله به تعالى والانتهاء عما نهى عنه من أرفع درجات ومقامات الصبر؛ لأن به تخص الطاعة، وبخلوص الطاعة يصح الدين وتؤدى الفروض ويُستحق الثواب. ومن صبر لله ثبته وقوى عزيمته وسدد خطاه وتفكيره إلى الصواب بغير لغط أو جنوح، ومن الصبر السلبي صبر عن الله وهو صبر أهل الجهل الذين باعدهم الله عن السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا الصنف من الصبر هو ابتعاد عن الله ورحمته وغفلة واضحة بحقيقة التوحيد والربوبية، وغفلة عن العبر والدروس التي ينبغي للمرء أن يعيها من أموره وأحواله. ويمثل الصبر عن الله عجلة وتسرعًا من المرء عن حكمة الله وفرجه القريب. والصبر أدب للنفس وترويض لها، ومن حسن التوفيق وأمارات السعادة الصبر على الملمات والمصائب وكوادر النفس والقلب معًا، وفي آثار السلف "من خير خلالك الصبر على اختلالك". وهناك صبر يلجأ إليه العبد فيما يخشى حدوثه، من رهبة يخشاها العبد، أو يحذر حلولها من نكبة يخشاها، وعلى العبد ألا يتعجل همًا ما لم يأت بعد، فإن أكثر الهموم كاذبة، وأن الأغلب من الخوف مدفوع. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "بالصبر يتوقع الفرج، ومن يدمن قرع باب يلج". وقال الحسن البصري: "لا تحملن على يومك هم غدك فحسب كل يوم همه". والصبر الذي نرجوه هو في حقيقته ثبات وعزيمة وقوة حيث يجاهد المرء نفسه ورغباته وشهواته، وهو قرب من طاعة الله تبارك وتعالى وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وتدريب حقيقي شاهد على تحمل القضاء لحكم الله مصاحب بالرضا والقنوع واليقين برحمة الله. وما أجمل أن يجعل الله عز وجل الصابرين أئمة للمتقين الصالحين القانتين، حيث يقول الله تبارك وتعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). والجزاء عظيم لمن صبر وارتضى بالقضاء الإلهي، يقول تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). ويشير الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى شمائل الصبر بقوله: "بني الإسلام على أربع دعائم: على اليقين والصبر والجهاد والعدل)، وقال رضي الله عنه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا رأس له". وقال أيضًا: "الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو". والفاروق عمر (رضي الله عنه) يشدد على التمسك بفضيلة الصبر حيث يقول: "نعم العدلان، ونعمت العلاوة للصابرين"، ويعني بالعدلين الصبر والرحمة، وبالعلاوة الهدى. وقال: "لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما ركبت". ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) جعل الصابرين خواص الصادقين، ففي حديث عطاء عن ابن عباس (رضي الله عنه) لما دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الأنصار فقال: "مؤمنون أنتم؟ فسكتوا، فقال عمر (رضي الله عنه): نعم، قال: وما علامة إيمانكم؟ قال: نشكر في الرخاء، ونصبر على البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال (صلى الله عليه وسلم): مؤمنون ورب الكعبة". والصبر عند أهل التصوف مقامات وأحوال، فصاحب الحياء يلتزم بخصال الإحسان وهو صابر، فيصبر عن معصية الخالق حياء من ربه، والصابر عن المعصية حياءً أكمل من الصابر عنها خوفًا، لأن صاحب الحياء في مراقبة دائمة، أما صاحب الخوف فهو في مقام مجاهدة.