نواصل الحديث المؤلم والمفجع لحياة بلاد النوبة والنوبيين خلال العقود الماضية ونسرد من خلاله الوعود والكلمات البراقة التي أطلقها ساسة مصر في ذلك الزمان بالحقائق والبرهان الواضح مثل سطوع الشمس . ( ساعات الرحيل ( ساعات الرحيل بين الشتات والوعود البراقة التي ذهبت مع الريح ،كانت الصدمة القاتلة والمفجعة لكل الأجيال المعاصرة التي ترعرعت في النوبة الجديدة بين جدران أسمنتية وحدود ضيقيه وجبال فاصلة بين النيل والنوبة ، أفقدت الحياة النوبية سحر بريقها ورونقها الحضاري والتاريخي في أرض غريبة وبعيدة عن وجدان النوبي ، فطمست الكيان والنماء والخصوصية والسهول والبساتين والسواقي والنخيل مصادر الثراء النوبية منذ بداية العهود ، ومن هنا سوف نستعرض بداية الشتات الجماعي والقسري لحضارة النوبة الممتدة إلي عمق وقلب التاريخ . الشعب النوبي قبل السد عاش حياة بسيطة ومغلقة داخل دائرة الخصوصية الشديدة . لم يعرفوا اللعب والعبث بالحروف والكلمات؟؟؟؟؟ لم يعرفوا أدني حدود اللعبة السياسية؟؟؟؟؟؟ لم يعرفوا أن الفناء لجذورهم هو المصير القادم؟؟؟؟ لم يعرفوا أن الطيبة الزائدة سوف تشرهم وتقتلهم وتفرقهم مدي الحياة ؟؟؟؟؟ وجاءت من الشمال وعود براقة وآمال عريضة وأمنيات كبيرة ومغرية تسيل معها اللعاب لبشرية لم تعرف غير الحب والأمان والسلام والصدق في التعامل وحسن النوايا حتى لو كانت مجرد كلمات ،فكانت الأرض ممهدة أمام القيادات السياسية للدخول إلي قلب النوبة بالشعارات والأحلام البسيطة لمحبي الأصالة والانتماء وإشعال الروح العنترية في قلوب الرجال بالتضحية من أجل البقاء ، ولكن !!!؟؟؟ بعد مرور أكثر من خمسين عام هي فترة الرحيل المر بدون عنوان ، لم يتحقق لنا أدني الحقوق المدنية والدستورية والشرعية والأدبية وسط تجاهل صارخ ومتعمد من كل الحكومات بلا استثناء . نبدأ في سرد الوعود التي أطلقتها الحكومة وذهبت مع الرياح، كانت البداية عبر آيات القران التي تهتز معها الجبال قبل البشر وتلين الحديد . ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيراً وسع) صدق الله العظيم . بداية الوعود أطلقها الرئيس جمال عبد الناصر وكانت كالأتي :- ( أن الخير الذي سيعم علي أبناء النوبة ، سيكون الخير الكثير ، لأنه سيجمع شمل أبناء النوبة جميعاً علي الأسس الصحيحة ، لبناء مجتمع قوي وسليم ، وبهذا تنقص الشكوى التي كنتم تشعون بها شكوى الانعزال لأننا جميعاً أفراد عائلة واحدة ، وأننا سنعمل علي جمع شملكم ،كما كان الشمل مجتمعنا في هذه المنطقة علي مر السنين . وأننا نعتقد أن عملية التهجير من هذا المكان ستكون عملية منظمة ومريحة ومركزة وستنقلون فيها من هذه الفري التي عشتم فيها إلي مناطق جديدة تشعرون فيها بالسعادة والحرية والرخاء ) ..(الرئيس جمال عبد الناصر) في يناير 1960 ثم جاء نائب رئيس الجمهورية السيد حسين الشافعي بالخطاب التالي إلي النوبيين : ( أذا كان أهالي النوبة سيتركون وطنهم الصغير في النوبة من أجل رخاء الجمهورية ، والآمال العريضة معقودة عليهم علي قيام السد العالي سيفتح ذراعيه ليرحب بهم في منطقة جديدة من أرضه في كوم أمبو تتوفر لهم كل عوامل الاستقرار والرخاء والحياة الكريمة ). جاءت وزيرة الشئون الاجتماعية بخطاب مثير وبراق وعنوان إسلامي: ( أنتم المهاجرون ونحن الأنصار) ( كل التضحية المطلوبة منكم اليوم ، هي الانتقال من جنوب السد العالي إلي شماله ولكن هذه الهجرة ستكون منظمة ومركزة ومريحة كما وعدكم زعيمنا باني السد لن تشعروا بأي تعب أو مشقة – ثم نريدكم في المجتمع الجديد مثل المهاجرين الذين نضجت عقيدتهم وأشتد إيمانهم ، فالتقوا بالأنصار في عمل هو نموذج العمل الاشتراكي الخالد . أنتم المهاجرون – ونحن الأنصار والأنصار يحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم علي أنفسهم سنعيش معا مجتمع الكفاية والعدل ولا يفصلنا عنكم بعد السفر ولا تمعنا عزلتكم عن الوفاء لكم بما تستحقون وأنكم تستحقون الخير الكثير -------------- سنرحل من هنا إلي النوبة الجديدة لنشترك معاً في بناء مجتمع ترفرف عليه السعادة كلنا كما قال زعيمنا جمال عبد الناصر ( كلنا أفراد عائلة واحدة ( ------ يجب أن تعمل القيادة الواعية في الاتحاد الاشتراكي العربي علي نشر هذا المبدأ كلنا أفراد عائلة واحدة ولا يمكن أن يهضم أحد أحد في العائلة الواحدة ، أن المجتمع الاشتراكي سيبني معكم في النوبة الجديدة نموذجاً منه في مناطق جديدة تشعرون فيها بالسعادة والحرية والرخاء ) كلمة الأنصار إلي المهاجرين أخواني أهل النوبة: دقت ساعة الرحيل إلي السعادة ، إلي الحرية إلي الرخاء في النوبة الجديدة فتقدموا أخواني أهل النوبة في رعاية الله واستعدوا بعون الله وسيروا علي بركة الله . أن سبعة وعشرون مليون من الأحرار هم أهلكم في الجمهورية العربية المتحدة يفتحون لكم قلوبكم وأرضهم وديارهم في النوبة الجديدة التي تشيد لكم الآن في الوادي الأخضر وادي كوم امبو شمالي السد العالي . ومن حقكم أن تعلموا في بداية هجرتكم المقدسة ، كيف تبني لكم النوبة الجديدة أنها تبني علي أساس جديد من الحياة ، تبني علي العهد الذي قطعه الرئيس جمال عبد الناصر علي الوطن كله ، عهد أن تنقلوا من قرأكم هذه إلي مناطق جديدة تشعرون فيها بالسعادة والحرية والرخاء ستكونون بأعين الوطن كله في النوبة الجديدة فقدموا إلي غدكم المشرق في حياة كريمة موفورة الأرض موفورة العمل موفورة الرزق يجتمع فيها الشمل ولا تشعرون بالعزلة ولا يمعنا بعد السفر عن الوفاء لكم بما تستحقون . دقت ساعة الرحيل إلي النوبة الجديدة قوموا في رعاية الله واستعدوا بعون الله وسيروا علي بركة الله – إلي بيوت حديثة ومزارع ناضرة ومصانع شامخة وخدمات لا تحصي وأمل يعززه العمل من اجل بناء مجتمع الكفاية والعدل . أن كل أجهزة الدولة تعمل متعاونة مع وزارة الشئون الاجتماعية علي أقامة النوبة الجديدة من طراز نموذجي لبناء مجتمع اشتراكي سعيد والاشتراكية من طباعكم والتعاون بينكم شريعة الحياة والتكافل فيكم من فطرة الله ، ستصنعون بهذه القيم والعادات مجتمعاً يقتدي به الآخرون – فهيا علي بركة الله إلي النوبة الجديدة . سيكون هناك عمل لكل قادر ورعاية كل مستحق وتكافؤ الفرص في التعليم والعلاج حق وأنتم مع الدولة سوف تصنعون أعز حياة في النوبة الجديدة . فهيا إلي غد مشرق بأذن الله ..هيا إلي أمل يتحقق بأمر الله .. هيا إلي النوبة الجديدة علي بركة الله والوطن كله في لهفة إلي لقائكم ليؤدي واجبه نحوكم في النوبة الجديدة . (محمد صفوت) وكيل وزارة الشئون الاجتماعية المساعد أول سبتمبر 1963م . تلك كانت الشعارات البراقة والوعود الزائفة للنوبة والنوبيين وضاع معها حضارة شعب وتاريخ امة عاشت في الظل بسلام ولكن ؟!!! هنا السؤال متى سوف نمتلك عقود بيوتنا وعقود أراضينا وتبني الدولة بقية بيوتنا ؟ أم هي كانت مناورة سياسية من ساسة مصر لعقول البسطاء ؟ أم كانت وعود تبخرت بين أروقة الدولة والوزارات ؟ أم كانت فكرة تشرد وشتات واقتلاع للنوبة من أرض الأجداد التي تباع اليوم للأجانب ويحرم النوبيين حثي من عبق وشذي الأسلاف ؟ رحال النوبة جمال القرشاوي [email protected]