لا يكاد أحد يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إلا ويذكر المحن التى تعرض لها فى سبيل تبليغ دعوة الحق والدفاع عنها وإزالة أى شائبة تشوبها والتضحية فى سبيل ذلك دون خوف أوتردد حتى أنه ختم حياته فى السجن رافضا الخروج الذى يشوش الدين على المسلمين : ليعلم العلماء والدعاة والقادة من بعده كيف يكون الثبات فى مواجهة الملمات وكيف تكون التضحية واجبة إذا تعرضت الأمة وعقيدتها ودينها للخطر 0 تعرض الإمام فى حياته الحافلة بالمواقف المضيئة للسجن سبع مرات كانت أقصرها أسبوعين وكان أطولها عامين ونصف قضى بعضها فى سجون مصر فى القاهرة والأسكندرية وبعضها فى سجون الشام فى قلعتها الشهيرة0 لم يبحث شيخ الإسلام فى حياته المليئة بالمحن عن السلامة فى دنياه لأنه لو أرادها لوجدها بما لم توجد أو تتوفر لغيره لكنه أراد السلامة فى دينه كما أراد الدرجات العلا من الجنة كما هو دأب ودين الصالحين . لم تكن حياة ابن تيمية فى سجنه خصما من رصيد حياته المشحونة بالعلم والعمل لدين الله بل استطاع أن يجعلها امتدادا لمسيرة البذل والعطاء الذى لم يتوقف فى أسوء الظروف وأحلك الساعات ولن نكون مبالغين لو قلنا أن أهل الباطل سيظلون يندمون على تعرضهم للشيخ بالسجن والاضطهاد الذى تحولت سنواته إلى رصيد ومعين لدعوة الحق ولاتزال تغترف منه حتى اليوم دون أن ينضب أو يصيبه عطب0 ** ** ولد شيخ الإسلام ابن تيمية فى بلدة حران التى تقع بين نهرى دجلة والفرات بجنوب تركياأو شمال سوريا الحالية لأسرة كردية وذلك فى شهر ربيع الأول من عام 661 من الهجرة ثم هاجر مع أسرته إلى دمشق وهو فى السابعة بعد الغزو التتارى الهمجى الذى أخذ فى اجتياح العالم الإسلامى آنذاك 0 ومن فضل الله على الشيخ وما أهله للأدوار العظيمة التى قام بها فى حياته ما متعه الله به من الإقبال على العبادة وتلاوة القرآن والذكر وماحباه الله من التواضع والزهد فى الدنيا إضافة إلى الجود والسخاء والصبر وقوة التحمل 0 بلغ الشيخ مرتبة عظيمة فى العلم وشهد له كل من عرفه ببلوغ مرتبة الاجتهاد كما كان منهجه العلمى يستند إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى السلف الصالح مع ما أضفاه عليه بقوة استدلاله وقوة استنباطه وأدلته واحتجاجاته الشرعية والعقلية. كانت حياة الشيخ حافلة بالجهاد والدعوة والحسبة ونشر العلم الصحيح والصدع بالحق فى وجه أهل الباطل وأهل السلطة ودحض افتراءات المبتدعة والفلاسفة والمتصوفة والباطنية والملاحدة والمعتزلة والجهمية والإشاعرة والإسماعيلية والنصيرية والروافض حتى لا يخيل لأحد أن الشيخ قد قام بكل هذا فى حياته التى لم تتجاوز 67عاما . كان من أهم ما أفاض الله به على الشيخ أن آتاه قلبا شجاعا لا يخاف إلا الله ولايخشى غيره ويستصغر فى الحق كل من عداه فيقول عنه ابن فضل الله العمرى :"كان ابن تيمية لا تأخذه فى الحق لومة لائم وليس عنده مداهنة وكان مادحه وذامه فى الحق عنده سواء"0 كان ا بن تيمية يستنكر على العلماء الذين يخافون السلاطين ويفتونهم بما يريدون فيقول : " لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض فى قلبه " لم يكن ابن تيمية يخشى من ذى سلطان مهما علا سلطانه بل كانت السلاطين تحسب له ألف حساب ولم يكن يسعى لشئ من دنياهم وإن كانوا يسعون إلى بذل كل ما يرضيه يقول الحافظ البزار : "لم يزاحم ابن تيمية فى طلب الرئاسات ولا رئى ساعيا فى تحصيل المباحات مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع أمره خاضعين لقوله وفعله وادين (أى متمنين) أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم مظهرين لإجلاله"0 ** ** ولم يكتف شيخ الإسلام بدور العالم بل إنه كان يتحين أى فرصة للجهاد ففى عام 702 هجرية لما شرع التتار فى اقتحام دمشق قام يحض الناس على الجهاد حالفا بالله إنهم لمنصورون ولما قال له بعض الأمراء قل إن شاء الله قال : أقولها تحقيقا لا تعليقا ووقف بين المقاتلين محرضا حتى كان النصر والغلبة للمسلمين واندحر التتر المعتدون . لم يكن أمام خصوم ابن تيمية كى ينالوا منه إلا أن يؤلبوا عليه الحكام ليضعوه فى القيود ويكبلوا حجته التى أعيتهم ويسجنوا منطقه الذى أربكهم ولم يكن بعيدا عن ذلك أن يكون السجن هو وسيلتهم الأخيرة لقهر إرادة الشيخ حتى يتراجع عن معتقداته ومبادئه0 وشى به بعض مخالفيه فى بعض مسائل العقيدة إلى سلطان مصر فقام باستدعائه إليها وعقد له مجلسا لمناظرته حضره العلماء وقضاة الدولة وكبار رجالها ورغم هذا الحشد الكبير فإنه لم يصبه الخوف أو التردد بل دافع عن اعتقاد السلف بكل شجاعة حتى أمروا بوضعه فى السجن بقلعة الجبل وسجنوا معه أخويه مدة عامين ونصف . كان شيخ الإسلام فى سجنه رمزا للثبات ودليلا على طريق الهدى والفلاح وترك للسالكين من بعده ميراثا ضخما يتأسى به أهل الصلاح والفلاح فى كل عصر 0 لقد عاش ابن تيمية حياته راضيا سعيدا برغم ما كان يلاقيه وما يتعرض له وخاصة فى الأسر الذى يضيق به الأشداء ولا يصبر عليه الأقوياء قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية " قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛أين رحت فهي معي لا تفارقني, إنَّ حبسي خلوة, وقتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة! " ** ** وبرغم عداوة بعض العلماء للشيخ وتأليبهم للحكام والعوام عليه حتى تسببوا فى سجنه ومصادرة كتبه إلا أنه لم يكن يحمل لهم أى ضغينة فقد كتب مرة من سجنه إلى تلاميذه يقول : " أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد فى سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات ". لقد تجاوز ابن تيمية مشاعر وسلوك البشر وهو يتسامى بإيمانه فلم يتظلم لإنسان أو يشك لمخلوق بل إنه كان يشكر الله فى محبسه فكان يقول في سجن القلعة-: " لو بذلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير,, "وكان يقول في سجوده -وهو محبوس-: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ما شاء الله " كان بإيمانه ويقينه يرى فى ظلمات الزنازين وضيق السجون سعة لم يعشها أو يستشعرها ساكنو القصور ونزلاء الحدائق الغناء وفى المقابل فقد كان يرى أن السجين هو من سجنه هواه فكان يقول : " المحبوس من حبس قلبه عن ربه -تعالى-,والمأسور من أسره هواه." ولما دخل إلى سجن القلعة, وصار داخل سورها؛ نظر إلي تلميده ابن القيم وقال:" (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)" كان ابن القيم يرى عن قرب تلك السعادة والطمأنينة التى تحاصر شيخه ولا تفارقه أينما حل ومهما كانت قسوة أعدائه وسوء الأوضاع التى يتعرض لها فكان يقول : "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط, مع ما كان فيه من ضيق العيش, وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها, ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق, وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً, وأشرحهم صدراً, وأقواهم قلباً, وأسرهم نفساً, تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه, فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله, وينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينةً! فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه, وفتح لهم أبوابها في دار العمل؛ فآتاهم من روحها, ونسيمها, وطيبها, ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها !!" ** ** قال ابن عبدالهادي: " فلما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله، ولم يبق عنده كتاب ولا ورقة ولا دواة ولا قلم، وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم، وقد رأيت أوراقا عدة بعثها إلى أصحابه وبعضها مكتوب بفحم ". ولما فقد الشيخ كل وسائل الاتصال بالعالم الخارجى لم ييأس وظل يكتب رسائله بالماء الذى يغسل به رسائل تلامذته التى كانت تصله. لقد أراد خصوم الشيخ أن يوجهوا إليه ضربة قاضية بحرمانه من الأقلام والأوراق والكتب لكنها فى حقيقتها كانت خدمة جليله فقد كشفت عن عجز خصومه عن مواجهة قوة حجته ونصاعة براهينه وأدلته كما فرغته للنظر والتدبر فى أعظم كتاب عرفه العالم كتاب الله تعالى . يقول ابن عبدالهادى : " وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر في شهر شوال قبل وفاته بنحو شهر ونصف، ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق .. أقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة انتهى في آخر ختمة إلى آخر سورة القمر عند قوله تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر}". يقول صديقه ورفيقه فى السجن عبدالله الزرعى : أن شيخ الإسلام قد أخبره فى آخر لحظات حياته فى هذه الحياة الدنيا وهو معه فى سجن قلعة دمشق البارد الضيق "أنه سامح جميع أعدائه وحللهم من عداوته وسبه ". وهكذا مات الإمام فى محبسه راضيا عن ربه مبلغا أعظم البلاغ متسامحا مع كل من عاداه أو آذاه تاركا لأمته وللعلماء والقادة والدعاة من بعده ميراثا ثقيلا مليئا بالجهاد والتضحيات ومكتظا بالبذل والعطاء ومرصعا بالصبر والثبات ومتوجا بالإيمان واليقين . وهكذا مات أبن تيمية فى سجنه رافعا لواء العقيدة الصحيحة رافعا رأسه أمام كل خصومها ومناوئيها ..وحتى فاضت روحه إلى بارئها عند قوله تعالى (إن المتقين فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) فجزاه الله تعالى عن الإسلام خير الجزاء وأبدله موقعا أفضل من موقعه فى الدنيا وجعل له مقعد صدق فى أعلى عليين .